أبو هريرة رضي الله عنه وبعض فقهاء الحنفية

حصل تقصير من قبل بعض فقهاء الحنفية في حق الصحابي الجليل الفقيه الإمام المجتهد أبي هريرة رضي الله عنه، إذ لم يعدوه من أصحاب الفقه والفتوى، وادعوا العمل بالقياس إذا خالف حديثه.

وكتبت عن ذلك في تحقيقي لأصول الشاشي، ومما جاء فيه: ولم يحسن المؤلف (أي صاحب أصول الشاشي) وغيره من فقهاء الحنفية إذ لم يعدو أبا هريرة رضي الله عنه من أصحاب الفتيا والاجتهاد.

قال الذهبي ردا عليهم: هذا لا شيء، بل احتج المسلمون قديما وحديثا بحديثه لحفظه وجلالته وإتقانه وفقهه، وناهيك أن مثل ابن عباس يتأدب معه، ويقول: أفت يا أبا هريرة. وقال الذهبي: وقد عمل الصحابة فمن بعدهم بحديث أبي هريرة في مسائل كثيرة تخالف القياس، كما عملوا كلهم بحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها، وعمل أبو حنيفة والشافعي وغيرهما بحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أكل ناسيا فليتم صومه، مع أن القياس عند أبي حنيفة أنه يفطر، فترك القياس بخبر أبي هريرة، بل قد ترك أبو حنيفة القياس لما هو دون حديث أبي هريرة في مسألة القهقهة لذلك الخبر المرسل. وقال الذهبي: وقد كان أبو هريرة وثيق الحفظ، ما علمنا أنه أخطأ في حديث.( سير أعلام النبلاء 2/578-632)

وذكر العلامة المحدث الفقيه محمد عبد الحي اللكنوي أبا هريرة رضي الله عنه من الصحابة المكثرين إفتاء، وقال: "وبهذا يرد على من قال من أصحاب الأصول الحنفية: إنا أبا هريرة لم يكن فقيها، فإنه قد عد من المفتين في العهد النبوي وبعده، ولا يفتي في ذلك الزمان إلا الفقيه، وقد أنكر هذا القول من أصحابنا أيضا ابن الهمام محمد بن عبد الواحد مؤلف "فتح القدير" في كتابه "تحرير الأصول".( ظفر الأماني بشرح مختصر السيد الشريف الجرجاني، بتحقيق شيخنا عبد الفتاح أبو غدة ص 543).

وقال العلامة الفقيه عبد العزيز البخاري: على أنا لا نسلم أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يكن فقيها، ولم يعدم شيئا من أسباب الاجتهاد، وقد كان يفتي في زمن الصحابة، وما كان يفتي في ذلك الزمان إلا فقيه مجتهد، وكان من علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".( كشف الأسرار 2/708)

وقال ابن الهمام: "أبو هرير فقيه" ( التحرير ص 319)، وقال ابن أمير حاج: "لم يعدم شيئا من أسباب الاجتهاد وقد أفتى في زمن الصحابة، ولم يكن يفتي في زمنهم إلا مجتهد" ( التقرير 2/251). وقد صرح بفقهه واجتهاده غيرهم من فقهاء الحنفية.

وسئل الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل يناظر مع آخر في‏ [مسألة المصراة‏]، وردها إذا أراد المشتري، فاستدل من ادعى جواز الرد بحديث أبي هريرة المتفق عليه، فعارضه الخصم بأن قال‏:‏ أبو هريرة لم يكن من فقهاء الصحابة، وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب كثرة الرواية، ونهاه عن الحديث، وقال‏:‏ إن عدت تحدث فعلت وفعلت، وكذا أنكر عليه ابن عباس، وعائشة أشياء‏. ‏‏ فهل ما ذكره الخصم صحيح أم لا‏؟ ‏وما يجب على من تكلم في أبي هريرة بهذا الكلام‏؟‏

فأجاب: الحمد لله‏. هذا الراد مخطئ من وجوه‏:‏ أحدها‏:‏ قوله‏:‏‏ [إنه لم يكن من فقهاء الصحابة‏] ‏فإن عمر بن الخطاب ولى أبا هريرة على البحرين، وهم خيار المسلمين، الذين هاجر وفدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم وفد عبد القيس‏.‏ وكان أبو هريرة أميرهم هو الذي يفتيهم بدقيق الفقه، مثل‏:‏ مسألة المطلقة دون الثلاث، إذا تزوجت زوجا أصابها، هل تعود إلى الأول على الثلاث كما هو قول ابن عباس وابن عمر، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن عمر، بناء على أن إصابة الزوج تهدم ما دون الثلاث كما هدمت الثلاث أو تعود على ما بقى كما هو قول عمر وغيره من أكابر الصحابة وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، بناء على أن إصابة الزوج الثاني إنما هي غاية التحريم الثابت بالطلاق الثلاث، فهو الذي يرتفع بها، والمطلقة دون الثلاث لم تحرم، فلا ترفع الإصابة منها شيئا، فأفتى أبو هريرة بهذا القول‏. ‏‏ ثم سأل عمر فأقره على ذلك وقال‏:‏ لو أفتيت بغيره لأوجعتك ضربا‏.‏ وكذلك أفتى أبوهريرة في دقائق مسائل الفقه مع فقهاء الصحابة، كابن عباس وغيره من أشهر الأمور، وأقواله المنقولة في فتاويه تدل على ذلك‏. وإذا كان عمر وعلي أفقه من عمران بن حصين، وأبي موسى الأشعري، لم يخرجا بذلك من الفقه، وكذلك إذا كان معاذ وابن مسعود ونحوهما أفقه من أبي هريرة وعبد الله بن عمر ونحوهما، لم يخرجا بذلك من الفقه‏.

الثاني‏:‏ أن يقال لهذا المعترض‏:‏ جميع علماء الأمة عملت بحديث أبي هريرة فيما يخالف القياس والظاهر، كما عملوا جميعهم بحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها‏"‏‏‏. ‏‏ وعمل أبو حنيفة مع الشافعي وأحمد وغيرهما بحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم "من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه‏" مع أن القياس عند أبي حنيفة أنه يفطر، فترك القياس لحديث أبي هريرة، ونظائر ذلك تطول‏. ‏‏ ومالك مع الشافعي وأحمد عملوا بحديث أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا، مع أن القياس عند مالك أنه لا يغسل؛ لأنه طاهر عنده، بل الأئمة يتركون القياس لما هو دون حديث أبي هريرة، كما ترك أبو حنيفة القياس في مسألة القهقهة ‏بحديث مرسل لا يعرف من رواه من الصحابة وحديث أبي هريرة أثبت منه باتفاق الأمة‏.

الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ المحدث إذا حفظ اللفظ الذي سمعه لم يضره ألا يكون فقيها، كالملقنين بحروف القرآن، وألفاظ التشهد والأذان ونحو ذلك‏. ‏‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم "نضر الله امرأ سمع حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه‏"‏‏، وهذا بين في أنه يؤخذ حديثه الذي فيه الفقه من حامله، الذي ليس بفقيه، ويأخذ عمن هو دونه في الفقه، وإنما يحتاج في الرواية إلى الفقه إذا كان قد روى بالمعنى، فخاف أن غير الفقيه يغير المعنى وهو لا يدري‏. ‏‏ و أبو هريرة كان من أحفظ الأمة، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحفظ قال‏:‏ فلم أنس شيئا سمعته بعد؛ ولهذا روى حديث المصراة وغيره بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.

الرابع‏:‏ أن الصحابة كلهم كانوا يأخذون بحديث أبي هريرة، كعمر وابن عمر وابن عباس وعائشة، ومن تأمل كتب الحديث عرف ذلك‏.

الخامس‏:‏ أن أحدا من الصحابة لم يطعن في شىء رواه أبو هريرة، بحيث قال‏:‏ إنه أخطأ في هذا الحديث، لا عمر ولا غيره، بل كان لأبي هريرة مجلس إلى حجرة عائشة، فيحدث ويقول‏:‏ يا صاحبة الحجرة، هل تنكرين مما أقول شيئا ‏؟‏ فلما قضت عائشة صلاتها لم تنكر مما رواه، لكن قالت‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث سردكم، ولكن كان يحدث حديثا لو عده العاد لحفظه، فأنكرت صفة الأداء لا ما أداه‏.‏ وكذلك ابن عمر قيل له‏:‏ هل تنكر مما يحدث أبو هريرة شيئا‏؟‏ فقال‏:‏ لا، ولكن أخبر وجبنا، فقال أبو هريرة‏:‏ ما ذنبي أن كنت حفظت ونسوا‏. ‏‏ وكانوا يستعظمون كثرة روايته حتى يقول بعضهم‏:‏ أكثر أبو هريرة، حتى قال أبو هريرة‏:‏ الناس يقولون‏:‏ أكثر أبو هريرة، والله الموعد؛ أما إخواني من المهاجرين، فكان يشغلهم الصفق‏ ‏بالأسواق‏.‏ وأما إخواني من الأنصار، فكان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت أشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا‏. ‏‏ ولقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، ثم قال " أيكم يبسط ثوبه‏؟‏‏‏"،، فبسطت ثوبي‏.‏ فدعا لي‏. ‏‏ فلم أنس بعد شيئا سمعته منه صلى الله عليه وسلم‏. ‏‏ وروى عنه أنه كان يجزئ الليل ثلاثة أجزاء‏:‏ ثلثا يصلي، وثلثا يكرر على الحديث، وثلثا ينام‏.‏ فقد بين أن سبب حفظه ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقطع العلائق ودعاؤه له‏.‏ وكان عمر بن الخطاب يستدعى الحديث من أبي هريرة، ويسأله عنه ولم ينهه عن رواية ما يحتاج إليه من العلم الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا توعده على ذلك‏.‏ ولكن كان عمر يحب التثبت في الرواية؛ حتى لا يجترئ الناس فيزاد في الحديث‏. ‏‏ ولهذا طلب من أبي موسى الأشعري من يوافقه على حديث الاستئذان، مع أن أبا موسى من أكابر الصحابة وثقاتهم باتفاق الأئمة‏.‏

السادس‏:‏ أن الصحابة كانوا يرجعون في مسائل الفقه إلى من هو دون أبي هريرة في الفقه، كما رجع عمر بن الخطاب إلى حمل بن مالك وغيره في دية الجنين، وكما رجع عثمان بن عفان إلى الفريعة بنت مالك في لزوم المتوفى عنها لمنزل الوفاة، وكما رجع عمر ابن الخطاب وغيره في توريث المرأة من دية زوجها، إلى الضحاك بن سفيان الكلابي‏. ‏‏ وكما رجع زيد بن ثابت وغيره إلى امرأة من الأنصار في سقوط طواف الوداع عن الحائض‏.‏ وكذلك ابن مسعود لما أفتى المفوضة المتوفى عنها بمهر المثل، فقام رجال من أشجع فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به، ففرح عبد الله بذلك فرحا شديدا‏!‏ وأبو بكر الصديق ورث الجدة بحديث المغيرة بن شعبة، ومحمد ابن سلمة، ونظائر هذا كثيرة‏.

السابع‏:‏ أن يقال‏:‏ المخالف لحديث أبي هريرة في المصراة، يقول‏:‏ إنه يخالف الأصول أو قياس الأصول‏. ‏‏ فيقال له‏:‏ بل القول فيه كالقول في نظائره التي اتبعت فيها النصوص، فهذا الحديث ورد فيما يخالف غيره لا فيما يماثل غيره؛ والقياس هو التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، وذلك أن من خالفه يقول‏:‏ إنه أثبت الرد بالمعيب، وقدر بدل المتلف، بل إن كان من المثليات ضمن بمثله وإلا فقيمته، وهذا مضمون بغير مثل ولا قيمة، وجعل الضمان على المشترى والخراج بالضمان‏. ‏‏ فيقال له‏:‏ الرد يثبت بالتدليس، ويثبت باختلاف الصفة باتفاق الأئمة، والمدلس الذي أظهر أن المبيع على صفة وليس هو عليها كالواصف لها بلسانه، وهذا النوع من الخيار غير خيار الرد بالعيب‏.‏ ويقال له‏:‏ المشترى لم يضمن اللبن الحادث على ملكه، ولكن ضمن ما في الضرع، فإنه لما اشترى المصراة وفيها لبن تلف عنده، كان عليه ضمانه، وإنما قدر الشارع البدل ؛ لأنه اختلط اللبن القديم باللبن الحادث، فلم يبق يعرف مقدار اللبن القديم‏. ‏‏ فلهذا لم يمكن ضمانه بمثله ولا بقيمته، فقدر الشارع في ذلك بدلا يقطع به النزاع، كما قدر ديات النفس وديات الأعضاء ومنافعها، ونحو ذلك من المقدرات التي يقطع بها نزاع الناس، فإنه إذا أمكن العلم بمقدار الحق، كان هو الواجب‏. ‏‏ وإذا تعذر ذلك شرع الشارع ما هو أمثل الطرق وأقربها إلى الحق‏. ‏‏ فتارة يأمر بالخرص ‏إذا تعذر الكيل أو الوزن، إقامة للظن مقام العلم عند تعذر العلم، ويأمر بالاستهام لتعيين المستحق عند كمال الإبهام‏. ‏‏ وتارة يقدر بدل الاستحقاق إذا لم يكن طريق آخر لقطع الشقاق، ورد المشترى للصاع بدل ما أخذ من اللبن من هذا الباب‏.‏

وفي المسألة حكاية ثابتة، ذكرها أبو سعد بن السمعاني عن الشيخ العارف يوسف الهمداني، عن الشيخ الفقيه أبي إسحاق الشيرازي، عن القاضي أبي الطيب الطبري، قال‏:‏ كنا جلوسا بالجامع ببغداد، فجاء خراساني سألنا عن المصراة، فأجبناه فيها، واحتججنا بحديث أبي هريرة، فطعن في أبي هريرة، فوقعت حية من السقف، وجاءت حتى دخلت الحلقة وذهبت إلى ذلك الأعجمي فضربته فقتلته‏.‏ ونظير هذه ما ذكره الطبراني في كتاب السنة عن زكريا بن يحيى الساجي قال‏:‏ كنا نختلف إلى بعض الشيوخ لسماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسترعنا في المشي، ومعنا شاب ماجن‏. ‏ فقال‏:‏ ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة، لا تكسروها‏. ‏‏ قال‏:‏ فما زال حتى جفته رجلاه، ولهذا نظائر، نسأل الله تعالى الاعتصام بكتابه، و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع ما أقام من دليله.( مجموع الفتاوى المجلد الرابع)‏.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين