إلى عتق من النار

 

 

 

خطبة جمعة للدكتور :محمد أبو الهدى الحسيني في الجامع الأموي الكبير بحلب

3/9/2010
 
ونحن في آخر جمعة في شهر رمضان الأغرّ..
ونحن نودع الأنفاس الأخيرة التي يتنفسها هذا الشهر العظيم في هذا العام المبارك، ولا ندري أنحيا العام الذي بعده أم لا؟
ونحن في موسم العتق من النار..
نُراجع أوراقنا قبيل خروج الشهر..
وفي العام الفائت في مثل هذه الأيام قلت لأهل الإيمان: إن العتق من النار يعني تبدّل الأفعال والأوصاف، فإذا وجد الإنسان في نفسه كراهيةً لكلّ فعلٍ يُغضِب الله تبارك وتعالى ويسوق إلى النار، وإذا وجد محبةً لكلّ سلوك يرضي الله تبارك وتعالى ويسوق إلى الجنة، فقد أعتقه الله من النار.
هذا على مستوى السلوك والأفعال، وتم التفصيل فيه في العام الفائت.
وفي هذه الجمعة المباركة أحببت أن ألفت نظر نفسي ونظر إخواني إلى تبدّل الأوصاف، فالأوصاف قد تكون أوصافًا جهنّمية وقد تكون أوصافًا جِنانية.
وكنت أتفكّر في الوصف الجامع الذي من خلاله يختصر الإنسان كلّ الأوصاف الجِنانية، فأهل الجنة نـزع الله تبارك وتعالى من قلوبهم كلّ غلّ وحقد، وكانوا عباد الله، فهم أهل التواضع، وأهل الأدب، وأهل الخشية، وأهل التوجه إلى الله.. لكنني كنت أتساءل عن الوصف الجامع لكل هذه الأوصاف النورانية التي من خلالها يستطيع الإنسان أن يتعرف إلى وصفه هل وصفه قد اقترب من أهل الجنان أم أنه ما يزال بعيدًا؟
والذي وقع في قلبي أن الوصف الجامع لكل الأوصاف النورانية الجنانية إنما هو وصف الرحمة، لأن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم اختصر المعادلة في حديثٍ يعرفه أهل الاختصاص بحديث الأولية، يقول فيه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
فإذا وُجدت الرحمة في قلب المؤمن دلّ ذلك على أن قلبه قد رقّ من خشية الله، وأنه قد طمع في جنة الله، وطمع في عفوه وكرمه وفضله... فقد اختصر الحديث النبوي سرّ الرحمة التي تتنـزل غيثًا على أهل الإيمان فيكونون عتقاء من النار ومن سخط مولاهم وسيدهم.
نعم، ألم يسمِّ الله تبارك وتعالى حبيبه سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرحمة؟
ألم يقل ربّنا تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ؟
ألم يسمّ الله سبحانه وتعالى الجنة رحمة؟
ففي سورة آل عمران نقرأ قوله تعالى:
{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ} أي في جنة الله، {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] فسمى الله سبحانه وتعالى الجنة رحمة الله.
فاختصر الله سبحانه وتعالى الجنة بكل ما فيها من النعيم والجود والإحسان بكلمة واحدة هي: الرحمة.
وروي أن الأقرع بن حابس جاء فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّل أولاد ابنته فقال: أوَ تقبّلون الصبيان؟
فنظر إليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم متعجبًا وقال: (أوَ أملك أن نـزع الله من قلبك الرحمة؟)
نعم، حينما يستقرّ وصف الرحمة في قلب المؤمن تجده مِعطاءً يعطي الكون كله من غير تردّد، فيعطي من أحسن ومن أساء.
ألا يرحم الله سبحانه وتعالى أهل الإساءة وأهل الإحسان؟
فإذا تخلّق المؤمن بأخلاق الله فإنه يصير من أهل الرحمة.
وعندما حكى الله سبحانه وتعالى لنا عن عبدٍ أحبَّه واختاره وخصّه بالمكرمات (في قصة الخضر الذي ذهب إليه موسى عليه الصلاة والسلام) وَصَفَه بوصفين اثنين هما الرحمة والعلم فقال:
{آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]
فإذا وُجد العلم من غير رحمة كان الوصفُ الضدَّ الذي هو القسوة الذي حذّر منه ربّنا تبارك وتعالى بقوله:
{وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]
فضدّ الرحمة القسوة، وإذا وجدت القسوة في القلب صار من السهل على الإنسان أن يكون سبب إضرار بالإنسان، لكنه حينما يتحول عن القسوة إلى وصف الرحمة يصير من غير تكلّفٍ صاحبَ عطاء وصاحب نفع، وصاحب جود وإحسان..
فهذا وصفٌ جامع نستطيع من خلاله أن نختبر أوصافنا، فإذا وجدنا ونحن في أسواقنا، ونحن في تجارتنا، ونحن في صناعتنا، ونحن في معاملاتنا... إذا وجدنا أن بعضنا بدأ يرحم البعض الآخر فإن أبواب الجنة قد فُتحت لنا بعد شهر الصيام المبارك.
وإذا وجدنا أن بعضنا أصبح يرحم بعضنا الآخر فليفهم أن أبواب جهنم قد أغلقت في وجهه وأصبح من عتقاء الله من النار.
فإذا وجدنا أن بعضنا بدأ يرحم بعضنا الآخر، فبدأت الكلمة الطيبة تظهر في ألسنتنا بدلاً من أن يقطّب بعضنا في وجه بعض، وبدلاً من أن يكون بعضنا سبب إزعاج وإيذاء لبعض.. فقد فُتحت أبواب الجنة.
وكذلك إذا وجدنا البسمة في وجوهنا، وهي صدقة يتصدّق بها الإنسان، إذ من الصدقات أن يكون وجه الإنسان طلقًا، إذا نظر الناس إليه استبشروا، فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكون مبشّرين لا منفّرين.
فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ رضي الله تعالى عنه إلى اليمن فاشتكى أهل اليمن من إطالته الشديدة للصلاة في الفريضة، وفيهم المرضى، (ففي النافلة يستحبّ للإنسان أن يطيل القراءة في إمامة الناس، أما في صلاة الفريضة فيكره ذلك، إذ فيها المريض وفيها ذو الضعف والحاجة)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (أفتّانٌ أنت يا معاذ؟).
وهكذا ابتعَثَنَا الله لنكون رحمة..
ابتعثنا الله تبارك وتعالى لنكون كالغيث، ينـزل على الأرض فتستفيد منه النبتة النافعة والنبتة الضارّة..
هل رأيتم أن الغيث حينما ينـزل على الأرض يفرّق بين نبات نافع ونبات ضارّ؟
إنه حينما ينـزل تخضرّ الأرض كلّها بسببه، فتخضرّ الريحانة المرّة، ويخضرّ الثمر الحلو، والجميع ينتفع بهذا الغيث، فتحيا الأرض به.
وكما تحيا الأرض بهذا الغيث يحيا كلّ الناس بأهل الإيمان، فالمؤمن كالغيث أينما سار نفع.
إذًا: ونحن في نهاية الدورة التدريبية الترويضية في شهر رمضان المبارك نقول: الوصف الجامع الذي من خلاله نتيقن أن الله تباك وتعالى أكرمنا بالعتق من النار إنما هو وصف الرحمة.
اللهم املأ قلوبنا بالرحمة، واجعلنا رحمةً مرسَلة بين الناس، واجعلنا رحمة للعالمين، بمنّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين