ملامح سور القرآن: سورة الأنفال وسورة التوبة

سورة الأنفال هي سورة أحكام الانتصار ووصاياه ونموذجه غزوة بدر، كما كانت سورة آل عمران في أحكام الانكسار والتعقيب عليه، ونموذجه غزوة أحد. وكما هي عادة القرآن في البدء بالأحكام العاجلة جاء في أولها ذكر الأنفال، وعاد إليه مرة أخرى عند (واعلموا أنما غنمتم من شيء) الآية.

وفي هذا المطلع وصف للمؤمنين يشار به إلى أن التعويل إنما هو على أوصاف الإيمان وأخلاقه، وعلى المعاني التي يحملونها وامتازوا بها، وعلى صلتهم بالله وكتابه وخشيتهم له، وعلى الجزاء الأخروي ودرجاته. وأما الأيام فدول، والنصر من عند الله. وأمرهم بالتقوى وإصلاح ذات البين خوف الانشغال بالغنائم والاختلاف عليها.

السورة تلح في التذكير بمعنى عظيم، وهو أن هذا النصر من عند الله، هو الذي هيأ أسبابه وساق إليه وأعان عليه وأنزل ملائكته تقاتل مع المؤمنين وتثبتهم، وتقرر الحقيقة التي لا يجوز أن تنسى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).

السورة مشحونة بالوصايا والتذكير لئلا يغتر المنتصرون بنصرهم، وينسوا ما كانوا فيه من قلة واستضعاف، وهي تبدأ من قوله: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله)، وتحذرهم من أن يتحولوا إلى أجساد صلبة تقاتل لا تعي ولا تقفه ولا تتعظ، وهي حالة الصم البكم الذين لا يعقلون، وهم شر الدواب.

في السورة أحكام العهد والسلم وإعداد العدة والأسرى والغنائم وملاقاة العدو ونصرة المؤمنين وموالاتهم ووصايا المعارك وطوائف المؤمنين والمهاجرين ومن جاءوا من بعدهم والتحقوا بهم، ممزوجًا ذلك كله بالتحذير من أن تتغير النفوس فتتغير الأحوال.

وتعرض من شئون الكفار ما استحقوا به الهزيمة لئلا يساويهم المؤمنون في العصيان ومجافاة أمر الله، فيكلهم إلى أنفسهم ويخلي بينهم وبين عدوهم، فإنما انتصروا عليهم بتأييد الله وبما هم عليه من خلال الخير، وأولئك خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله. وأقدار الله إنما تجري على سنن، فدأب هؤلاء كدأب آل فرعون في الطغيان، فسن الله بهم سنتهم، فليحذر المؤمنون من أن يتغير ما بأنفسهم فتتغير نعمة الله عليهم.

* * *

سورتا الأنفال والتوبة مخصصتان لحالة النصر والظفر، والفرق بينهما أن النصر في الأنفال في معركة، والنصر في التوبة أوسع إذ قد نزلت بعد فتح مكة.

والسورتان أشبه بسورة واحدة، تجاورتا واتحد موضوعهما. والأنفال سورة قصيرة وقعت بين سور طوال فكانت مع براءة كجزء منها، ولذلك لم يُفصل بينهما بالبسملة، وفي ترك البسملة بينهما أيضا إشارة إلى تسارع هذه المراحل والأحداث وتداخلها، وحث على تداركها بالجد والحزم، بالانتقال من جهاد الدفع إلى جهاد الطلب، ومن نصر معركة إلى نصر معارك وفتح وتمكين.

السورة تشرح أنه لا يمكن الوقوف في منتصف الطريق أو إنجاز نصف معركة أو دعوة أو حركة، فالمعروض هو دين ودولة، وأحكام وشرائع، ودعوة للناس كافة، ونظام شامل للحياة، وعبودية خالصة لله تألَّبَ عليها محيطها، ووقع الصدام المسلح بينهما، وانتصرت عليه وفتحت مكة عاصمة الجزيرة، فلا بد من إكمال الشوط إلى آخره.

فما بقي من عهود للمشركين يوفى بها إلى مدتها، وما لم يؤقت فغايته أربعة أشهر ثم يؤخذ المشركون حيث كانوا، وذلك لتأمين الجزيرة كلها وإخلاصها للإسلام. وغير هذا هو إسلام للنفس للعدو لأنه سيعد عدته للانقضاض على هذا النظام الناشئ والدولة الجديدة، وهو إن ظهر على المؤمنين لا يرقب فيهم إلًّا ولا ذمة، ربما أرضوهم زمنًا بأفواههم مسايرة لعلو شأنهم وانتصارهم، ولكن القلوب مطوية على الحقد وانتظار الفرصة.

وما فتئت السورة تحرض على القتال وتشحذ همم المؤمنين وتغريهم بعدوهم من المشركين، ثم ثنت بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، فقد نقض اليهود عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، وقتل النصارى مسلمًا كبير قوم في الشام، وأعدوا العدة لغزو المسلمين، ولذلك خرج إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك في ساعة العسرة، ولكن الله كفاهم قتالهم.

والحق أن السورة في مجملها في جهاد الطلب لاتقاء عدوان متوقع، أو لتأمين حدود الإسلام وإرهاب العدو، أو لبسط سلطان المسلمين وتقوية شأنهم وشوكتهم، فهم بغير ذلك مأكولون ومقضي عليهم، ولن يستطيعوا إقامة دولتهم، وتحكيم شريعتهم.

وحيثما نظرت في آياتها وجدتها دائرة على هذا المعنى، حتى إنها ذكرت تقويم السنة وأنها اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، فأشارت إلى أن السنة الشرعية هي السنة القمرية التي توقت بها العبادات ومنها الزكاة، ومن مصارفها سبيل الله، وهو الجهاد، ومنها الجهاد نفسه، وقد قرر الفقهاء أن جهاد الطلب فرض كفاية مرة في العام على المسلمين.

ولأن الحال حال انتصار وعلو شأن كانت هذه السورة فاضحة للمنافقين باحثة أحوالهم مفتشة عن أصنافهم وأقوالهم وأفعالهم، لأنهم يكثرون في هذه الحال مع ما في كثرتهم من عبء وتخذيل وتشغيب، ولذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بجهادهم وجهاد الكفار والإغلاظ عليهم.

ومن أسماء السورة التوبة، والسبب الظاهر في التسمية ما ذكر في آخرها من توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة الذين خلفوا، وتوبة كل بحسَبه، فكل إنسان مطالب بمحاسبة نفسه فيما بينه وبين الله وبمزيد من تحري مرضاته. والسبب الباطن هو إلماحها إلى ما جاء في سورة النصر: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا). وأيضا لشدة تكليف الجهاد، وما عسى أن يكون المؤمنون قد قصَّروا فيه، وهو تقصير إن حدث يعود عليهم بالنقص والعنت، ولذلك خُتمت السورة بهذه الآية الجامعة: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) الآيتين، فإن التثاقل عن ندب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الجهاد يجلب العنت، وهو لا يريد لهم ذلك، كما قال: (لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم)، وهم إن تثاقلوا فالله حَسْبُه، إذ قد نصره ثاني اثنين قبل العدد وقبل المغازي وقبل الفتح.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين