وداعاً كورونا.. مع الشكر(1)

لم أكتب كلمة واحدة وأنا في الحجر، ليس بسبب الأوجاع التي لم تكن تفارقني ليل نهار، بل لأنني أردت أن أكون مع المرض بكل حواسي. 

دعوتُ الله أن يمنحني ذاكرة قوية، تعيد عليّ كل ما مررتُ به، حتى أدوّنه وأنا أتماثل للشفاء، وها أنا اليوم أكتب..

بدأت أشعر بالضعف، رجلاي لم تعد تحملاني، ويداي لم تكن تسعفاني، وَهْنٌ تسلّل إلى أطرافي، التي باتت ترتجف من غير برد، وثقل ضرب أوصالي ومفاصلي، وسخونة تحرق شراييني، ولا أجد ما يطفئ نارها التي تتّقد من دمي، أما رأسي الذي كانت تدور فيه الأفكار والخواطر، فقد فرغ من كل شيئ، إلا من آثار انفجارات متكررة، تكاد تخرق جمجمتي، لتُخرج رمادها الملتهب..

علمتُ أن الزائر غير المرغوب به قد حلّ في جسدي، سلّمت أمري لله، وأنا أعلم أن الربو الذي أعاني منه قد يعقّد الحالة، خاصة أن الفيروس "المشكك به للآن" يستهدف رئتيّ المتعبتين قبل أن يجيء..

لم أشعر بالخوف، كنت على يقين أن الله تعالى سيريني من آيات لطفه، ويغمرني بعظيم كرمه، كيف لا، وهو الذي أجرى على لساني قبل أكثر من أسبوعين دعاءً لم أفتر عنه: "يا لطيفاً لم يزل، ألطف بنا فيما نزل"، فكان كل ما حصل بعد ذلك لطفاً في لطف..

كنت أعرف "نظرياً" كل الأعراض التي ستصيب المريض، لكنني الآن أعيشها وحدي، لذلك قررت أن أركّز معها، أن أسمعها، وأراها، وألمسها، وأتذوقها. 

نويت الخلوة، ورجوت الجلوة..

آلمني أنه كلما دخل عليّ أولادي، توسّلت إليهم حتى يخرجوا، وهم أكثر ما أحتاجهم بجانبي.. ومع هذا الموقف بدأت أتعلم كيف ألمس المشاعر، وأًلبسها رداء الفهم، وأعلقها في خزانة عقلي: فليس كل طرد أو إبعاد عن كره أو قِلى، بل قد يكون عن شدة الحب، وعميق الرغبة في دفع الضرر، عن طريق إبعاد المتضرر المحتمل..

كم مرة أبعدنا الله تعالى عما نرغب، فظننا أن الصرف انتقام أو بغض، وأن المنع تضييق أو حرمان!

فيا قلب، إذا صرفك الحبيب عن باب من الأبواب، فهو الأمر في إدنائك من باب هو أسلم لك، مع فائض المحبة، قف هنا، وتأمل.. 

خشيت أن أخسر حاستي الشم والذوق، وهما الغاليتان العزيزتان، فصرت أركز معهما، وأتتبع حتى أدق الروائح والأطعمة، وأستمتع بكل ما يُشم ويذاق، حتى ولو كانت حبة دواء مُرة، أو مشروب عشبي غير مستساغ!

لم تضعفا، بل قويتا، وزاد معهما شكري لرب شملتني لطائفه، وعمّني فضله، وهو اللطيف الخبير..

أرهفت سمعي لكل ما يدور بداخلي، إنها المرات الأولى التي أحسب فيها دقات قلبي المتسارعة، وعدد أنفاسي الصاعدة والهابطة ببطئ، صرت أتخيل جيوش الكريات البيضاء وهي تهاجم فلول الفيروس الغازية، وأخمّن مواقع الصدام، وأدعو للمدافعين عني بالتأييد الإلهي، وعلى المعتدي بالهزيمة والحسم الرباني! 

عشت في العالم الجوفي، بين دعاء لي بالصبر، وللمقاومين بالنصر، وبين طلب بإنزال جندي النوم عليّ، كلما اشتد الألم. 

لم يخيبني الله في كل ما دعوت، فله المنة..

إنه العالم الخفي المحسوس، أجهزة وأنسجة وخلايا، ومستقبلات وجيوش ومعارك، ويذهب الجاحدون بعيداً بحثاً عن الخالق العظيم!

كل شيء في الداخل محسوب ومدروس، كل شيء هنا مجنّد للخدمة، ملتزم بالنظام، طائع على هدى، سائر لتحقيق المصلحة العامة، كل شيء يعرف وظيفته وطريقه، ويعرف عدوه، ولا يتوانى عن محاصرته للقضاء عليه.. ليتنا نفعل كل ذلك، ليتنا نتجاوب مع إلهامات الله لنا كما تفعل خلايانا، ليتنا نمضي مع إرادة الله التشريعية، كما مضت أجسادنا في إنفاذ إرادة الله التكوينية.. لا خوف والله مولانا، لا حزن ولله مبتدانا ومنتهانا.. فهل ترانا نفعل؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين