وإن الدار الآخرة لهي الحيوان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:

فيقول الله تعالى: {وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

وتعد كلمة (الحيوان) واسطة العقد من الآية؛ فقد وقعت موقعا لا يملؤه غيرها، وأدت معنى لا يصلح له سواها، وإنك لتسمع لها نغما يأسر الألباب، ويحير عقول الأدباء، فإنك إذا وضعت مكانها كلمة (الحياة) مثلا ثم تذوقتها لوجدت للأولى حلاوة لا تجدها في الثانية، على الرغم من أن (الحياة) و(الحيوان) كلاهما مصدر للفعل (حَيِيَ)، لكن (الحيوان) تؤدي من المعاني اللغوية والصرفية ما لا تؤديه (الحياة).

أما (الحياة) فهو من المصادر التي تسمى اسم المَرَّة، فلو جاء النظم الكريم: وإن الدار الآخرة لهي الحياة مثلا، لقيل: كيف ذلك وقد سبقت حياة هي الحياة الدنيا؟ وقد قال تعالى على لسان أهل النار: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر: 11].

أو لقدرنا صفة محذوفة، ويكون المعنى: وإن الدار الآخرة لهي الحياة الحقيقية الدائمة.

وأما (الحيوان) فهو مصدر على وزن فَعَلان، والمصادر على وزن فعلان تدل على الاضطراب والحركة وعدم السكون، مثل: الغَلَيَان، والفَلَتَان، وحَدَثَان الليل والنهار أي حدوثهما، والمَوَتَان وهو الموت المنتشر، فالمعنى المتبادر إلى الذهن والمفهوم في الآية الكريمة، أن الدار الآخرة هي الحياة الدائمة الأبدية التي لا يقطعها سكون الموت، وهذا المعنى لا يؤديه لفظ (الحياة).

ولما كان السادة المفسرون من أهل اللسان أو مخالطين لأهل اللسان، فإن ذلك الفارق في المعنى لم يخف عليهم، لكنهم أشاروا إليه دون تفصيل واستطراد، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن (الحيوان) تعني: الباقية، وروي عن قتادة ومجاهد رحمهما الله تعالى أنهما قالا: حياة لا موت فيها.

وبهذا يُعْلَم فرق ما بين المصدرين: الحياة والحيوان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين