محن تنتج مِنحاً...فن إدارة الوقت

من البرامج المفيدة التي يمكن للمرء متابعتها برنامج (تأملات) ويقدمه الأستاذ المتألق محمد صالح، وعماده اللغة العربية وما فيها من جمال وإبداع. 

وأثناء متابعتي للحلقة الأخيرة الثلاثاء (25 / 8)، جرى كلام عن كتاب (ديوان الحماسة) للشاعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي (188 - 231 هـ / 803-845م) ، وهو مجموعة ضخمة من أبيات الشعر العالية جمعها مما تفرق في بطون الكتب، وأن السبب وراء هذا العمل الأدبي الرائع هو إنقطاع السبيل بأبي تمام أثناء عودته إلى بغداد من رحلة إلى خراسان، إذ في طريق عودته عرَّج عند صديقه أبي الوفا بن سلمة (وليس أبي سلمة كما سبق إليه لسان الأستاذ مقدم البرنامج) في همذان فانقطع به السبيل عنده بسبب تساقط الثلوج، مما اضطره إلى البقاء في ضيافة صديقه الذي أراد أن يخفِّف عنه، فخلى بينه وبين خزانة كتبه العظيمة يشغل بها وقته ويؤنس بها سجنه الإجباري، فاشتغل عليها أبو تمام، وقضى وقته في عمل مختارات من الشعر العربي، حتى انتهى من كتابين كبيرين: (ديوان الحماسة)، و(ديوان الوحشيات). وليس فقط (ديوان الحماسة). 

وهذه الدواوين تحوي مجموعا عظيما من الشعر العالي من حيث الصناعة والمعنى، اختاره الشاعر أبو تمام الطائي من محفوظاته التي كانت تبلغ حوالي أربعة عشر ألف أرجوزة، غير القصائد والمقاطيع، إضافة إلى ما انتخبه من خزانة صديقة العظيمة. ولم يجمعه من خزانة أبي الوفا فقط. 

أما (الوحشيات) والذي يطلق عليه (الحماسة الصغرى)، فقد اختاره من مجهول الشعر عند العامة، وضم إليه قصائد ومقطوعات من الشعر الذي كان متفرقاً وغير معروف لدى أكثر الرواة. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على سعة حفظه واطلاعه على أشعار العرب.

هذه الموسوعات التي طارت شهرتها في الآفاق، وتعتبر من أهم مراجع الشعر العربي في التاريخ، كان السبب المباشر لجمعها هو الحبس الاضطراري الذي أُلجئ إليه أبو تمام، فأحسن استغلال الوقت بالمفيد، فلم يتذمر ولم يتبرم ويتضجر، وإنما عمل على الاستفادة القصوى من إقامته الإجبارية، فكانت تلك الموسوعات الشعرية. 

الموسوعة التي خرجت من الجُبّ:

هذا الموضوع ذكرني بقصة حبس من نوع آخر، أنتجت موسوعات فقهية وأصولية، هي قصة سجن الإمام السرخسي الحنفي صاحب كتاب (المبسوط) الذي يعتبر موسوعة من أضخم موسوعات الفقه المقارن في التاريخ الإسلامي. فما قصة هذا الكتاب؟

على طريق الحرير؛ تلك الشبكة المترابطة من الممرات التجارية التي كانت تسلكها القوافل والسفن، مرورا بجنوب آسيا، والتي كانت تصل بين مدينة (تشآن) (وكانت تعرف بتشانغ آن) في الصين مع (أنطاكية) في تركيا، بالإضافة إلى مواقع أخرى؛ على هذا الطريق كانت تربض مدينة تاريخية عريقة، اسمها (سَرَخْس) لتشكل محطة مهمة حيوية، كما كانت حاضرة علمية مميزة، حيث كانت تضم في القرن الحادي عشر ميلادي، الخامس هجري، العديد من المكتبات كما كان فيها مدرسة شهيرة للمعماريين.

هذه المدينة شهدت مطلع القرن الحادي عشر، وبالتحديد سنة (1009م، حوالي 390هـ) ولادة غلام سوف يكون إمام زمانه في المذهب الحنفي، هو : مُحَمَّدُ بنُ أَحْمدَ بنِ أبي سهل، أَبُو بكر، الذي اشتُهر بلقب شمس الأئمة السرخسي، ما لبث أن انتقل منها بعد مدة إلى (أوزجند) في فرغانة، وفيها كانت وفاته سنة (1090م، 483هـ)، وضريحه اليوم موجود في جمهورية قرغيزستان. 

محنةٌ تنتج منحةً.

كانت للأمير (الخاقان) حظية أحبها من شغاف قلبه، فأعتقها يريد أن يتزوج بها، قبل انقضاء عدتها الشرعية. فجاءه الإمام ناصحا له بعدم مخالفة تعتبر حراما شرعا.

لم يتحمل العاشق الولهان هذ النصيحة، فأمر بحبس الإمام السرخسي.

وهكذا أُلقيَ إمامُ أهل زمانه في الجب سنة (1073م -466ه). ، لأنه خالف مقتضى (هوى القلب)، ولبث فيه (15) خمسة عشَر عاما لأنه أراد للحاكم الخير في دينه ودنياه وآخرته. فلم يشفع له علمه، ولا سنه، ولا أنه صاحب فكرة (بطاقة الائتمان) التي تعتبر اليوم من أهم أساليب التبادل والتوثيق التجاري.

وعلى الرغم من السجن لم تنقطع علاقته بتلامذته، فكانوا يتحلقون عند فوهة الجب ليكتبوا ما يمليه عليهم من كنوز صدره وعقله، فأملى عليهم كتاب (المبسوط) (مطبوع في 30 جزءًا) كما أملى عليهم (شرح السِيَرِ الكبير) للإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة (مطبوع في 5 مجلدات). فلما بلغ كتاب الشروط، وهو مقدار ثلثي الكتاب تقريبا، أُطلق سراحه، فذهب إلى مرغينان. وذلك سنة (1088- 481ه) أي قبل وفاته بسنتين.

وكما خرج نبي الله يوسف عليه السلام من الجب ليتصدر المجالس، خرج إلى الوجود هذا الكتاب العظيم من الجب، ليكون مرجعا في الفقه الحنفي.

ومن يطالع الكتاب يجد أنه في مطلع غالب أبوابه تُذكر العبارة الآتية: «(قَالَ) الشَّيْخُ، الْإِمَامُ، الْأَجَلُّ، الزَّاهِدُ، شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ، أَبُو بَكْرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ إمْلَاءً». الأمر الذي يشير إلى انه أملاه من حفظه.

ومن اللطائف أنه أثناء إملائه الكتاب على طلبته كانت تصدر عنه عبارت في ختام بعض الأبواب تدل على المحنة التي كان يعيشها. 

فمثلا عِنْد فَرَاغه من شرح الْعِبَادَات، يقول: «هَذَا آخِرُ شَرْحِ الْعِبَادَاتِ بِأَوْضَحِ الْمَعَانِي وَأَوْجَزِ الْعِبَارَاتِ أَمْلَاهُ الْمَحْبُوسُ عَنْ الْجَمْعِ وَالْجَمَاعَات».

ويقول فى آخر كتاب الطَّلَاق: « هَذَا آخِرُ شَرْحِ كِتَابِ الطَّلَاقِ بِالْمُؤْثَرَةِ مِنْ الْمَعَانِي الدِّقَاقِ، أَمْلَاهُ الْمَحْصُورُ عَنْ الِانْطِلَاقِ، الْمُبْتَلَى بِوَحْشَةِ الْفِرَاقِ».

وفى آخر كتاب الْعتاق يقول: «انْتَهَى شَرْحُ كِتَابِ الْعَتَاقِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ، أَمْلَاهُ الْمُسْتَقْبِلُ لِلْمِحَنِ بِالْإِعْتَاقِ الْمَحْصُورِ فِي طَرَفٍ مِنْ الْآفَاقِ حَامِدًا لِلْمُهَيْمِنِ الرَّزَّاقِ وَمُرْتَجِيًا إلَى لِقَائِهِ الْعَزِيزِ بِالْأَشْوَاقِ وَمُصَلِّيًا عَلَى حَبِيبِ الْخَلَّاقِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ خَيْرِ الصَّحْبِ وَالرِّفَاقِ».

فسلام على تلك الأنفس العملاقة التي لا تستسلم للمحن، ولا تركن إلى عوادي الزمن، وإنما تحسن إدارة الأزمات لتقدم للبشرية ما ينفعها في حياتها، وأدبها، وعلمها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين