النفاق قديمٌ جديدٌ

قال تعالى: ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه)

قد لا يكون النكث بالكلام إنما يتعدّاه إلى العمل، فينكص المرء إلى غير ما قال، أو يتخلف عنه بأعذار مكشوفة يصدقها صاحبها فقط.وما نراه من إخلاف ونقض للعهود ممن يدّعون الصلاح والإيمان ينتمون إلى جِبِلّة المنافقين القدامى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ففي غزوة الحديبية رأى المنافقون من أهل المدينة وما حولها من الأعراب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عزمه على العمرة في السنة السادسة من الهجرة ومعه عدد من الصحابة قليلٌ معهم السيوف في أغمادها سوف يلقون قريشاً وأحلافها عازمين على صدِّ المسلمين عن العمرة بالقوة ، وقد يستاصلونهم قبل الوصول إلى مبتغاهم، فأحجموا عن مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في تلك الرحلة معتذرين بأن أهلهم وأولادهم وأموالهم اضطروهم لذلك،( شغلتنا أموالنا وأهلونا) ولعل النبي صلى الله عليه وسلم يقبل منهم عذرهم فيعذرهم ويعفو عنهم ويستغفر لهم(فاستغفر لنا)، فسماهم القرآن الكريم :/المتخلفين/ وفضحهم إذ يقول (سيقول لك المخلفون ..) أخبره بذلك قبل أن يقولوها( سيقول) بصيغة المستقبل. وهذا القول" الاعتذار"لا يتجاوز أفواههم إنما هو تَعِلّةُ الكذب ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) فيبطنون خلاف ما يُظهرون،وهذا هو النفاق المحض، والكذِبُ المُغلَّف ،لقد قالوه رياءً من غير صدق.

هؤلاء المنافقون من أهل المدينة وما حولها من الأعراب الذين تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية ظنّوا التخلف عن رسول الله يحفظهم من الضر ويعجل لهم النفع ويدفع عنهم ما قد يظنونه من سوء ، فوبخهم القرآن لهذا التفكير الذي يدل على ضعف في الإيمان وسوء في الظنِّ ،ونسوا أن الله تعالى مطّلع عليهم وعلى نياتهم ، وأنه سيفضحهم، وكذلك فعل( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً) سوّل لهم الشيطانُ ذلك الضلالَ ،وحسَّنه في أنفسهم( وزُيِّن ذلك في قلوبكم) هذا التفكير أسقطهم في حساب الإيمان فهلكوا مستوجبين سخطَ الله وعقابه ( وكنتم قوماً بوراً)

قالوا : ( شغلتنا أموالنا وأهلونا ) فكذبوا ،

وظنوا التخلف يدفع الضرَّ ، فنبههم إلى أن الله تعالى بيده النفع والضُّرُّ (قل :فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً)

ثم أكد القرآن أن الله عليم بكل شيء الخبير به ، بيده كل شيء( بل كان الله بما تعملون خبيراً).

لقد كانوا بإعلان إسلامهم عاهدوا الله تعالى على البيعة ، فمن نكث البيعة أضرَّ بنفسه، لأنه حرَم نفسه الثواب ،وألزمها العقابَ بنقضه ما بايع عليه، ولو أنه أوفى بعهده وجَدَ ما يُسعده ( ومن أوفى بما عاهد عليُ اللهَ،فسيؤتيه أجراً عظيماً.)

استوقفتني هذه الايات في سورة الفتح توضح أنَّ تصوّر السوء بأمر الله وقدره والظنَّ الفاسد يفضي بصاحبه إلى الكفر والعياذ بالله.

حال الكثير ممن حاد عن درب الحق وسبيل الرشاد هذه الأيام واستنكف عن الجهاد بالكلمة والمال والنفس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، أو ببعضها تراه على شفا خطر كبير ، فالعدو لا يفتأ يزين لضعفاء الإيمان الانقلابَ على الحق ،

فإن لم يستطع الوصول إلى غايته هذه نفث في روعه أن الأمر طويل وأن الطريق شائك،وأن أهل العقول انصرفوا عنه ، فليتبعهم إن أراد السلامة ، وإلا رضي منه بالانكفاء والجمود وكأنه ليس من هذه الأمة ، يضع نفسه بين المتفرجين ...

والوصول إلى الهدف – أيها الصادقون- يحتاج همة عليّة ،وإيماناً راسخاً، وأملاً قوياً، وعملاً دؤوباً.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين