الحظيرة والهوية

تناولت وسائل التواصل الاجتماعي نقاشات حادة بعد انفجار بيروت المفجع مدارها أن عددا من الموطنين اللبنانيين قد قرروا السفر والانتقال من لبنان للعيش في بلاد أخرى أكثر أمنا واحتراما لقيمة الإنسان.

لقد اتخذوا هذا القرار اعتراضا منهم على الفساد الذي ينخر البلاد والفوضى التي تعصف به.

لأجل ذلك تمت مهاجمتهم من آخرين اتهموهم بعدم الوطنية، فالأوطان ليست "هوتيل" يهجره الإنسان عندما لا يجد فيه الراحة بل يجب عليه أن يتجرع المر والألم حتى يثبت أن له ولاء لوطنه.

ولذلك أردت أن أناقش هذا الموضوع (مفهوم الوطن والوطنية حسب المفهوم المتداول بين عوام الناس)

الوطنية، أو تقديس الوطن كما يفهمه عوام الناس هو محاولة منهم للتعبير عن انتمائهم، ولذلك تحول الوطن بالنسبة لهم إلى هوية.

هذا مصري وذاك لبناني والاخر سوري رغم انهم ربما من حيث الجينات الوراثية عائلة واحدة بل وأقارب من الدرجة الثانية والأولى أحيانا.

لكن الخطَّ الفاصل بينهم -وهو خط وهمي بالمناسبة- والذي يدعى حدودا؛ فرقهم وكون لكل واحد منهم هوية مستقلة.

فهل بالفعل هويتنا هي أوطاننا؟

ربما تحول هذا المنطق سائدا في العقود المتأخرة بعد أن أغلقت الحدود بإحكام وتم تحويل الأوطان إلى حظائر يُمنع الخروج منها والدخول إليها إلا بإذنٍ ووثائق رسمية تتحكم الأنظمة الحاكمة في إصدارها وتجديدها.

هذا التقسيم جاء في كثير من الأحيان حسب مصالح دول كبرى استعمارية منتصرة في الحرب العالمية الأولى والثانية قاموا بتقسيم الكعكة أو الغنيمة حسب نفوذهم الاستعماري لها ولأجل ذلك ظهرت على الخريطة كثير من الدول من العدم لم يكن لها ذكر تاريخي قبل ذلك، والمنطقة العربية تعج بهذا النوع.

ثم تلا ذلك سيطرة الأنظمة السياسية (المحسوبة على الداخل ولكن ولاءها لازال مستمرا للخارج في كثير من الأحيان) في مسرحيات هزلية تسمى (الاستقلال)، وأصبح كل نظام سياسي يستقي شرعيته بالطريقة التي تحلو له وليس بالضرورة حسب رضى الشعوب .

لا يمكن إنكار أن مفهوم الوطن كان موجودا قبل هذه الفترة الزمنية الفريدة في التاريخ؛ ولكنه بشكله الحالي (الذي تحول فيه ليس مجرد وطن فحسب وإنما لهوية ايضا) لم يحصل إلا في هذه العقود الاخيرة.

حتى الدول المتقدمة اليوم فإن مفهوم الوطن لديها يختلف عن هذا الذي نعرفه (نحن العرب والمسلمين) فمن هاجر إليهم وعاش عندهم فترة من الزمن أصبح واحدا منهم ولم تتمسك هذه الدول المتقدمة بمفهوم أن (الحظيرة لأبناء الحظيرة فقط) وبقي هذا المفهوم الغريب والذي يبدو مقصودا عندنا نحن فقط.

السؤال التالي.. هل تحول الأوطان إلى هوية أمر ايجابي.. بمعنى هل هو في مصلحة الناس والأوطان؟ أم أنه يصُبُّ في النهاية لصالح الأنظمة الحاكمة ومَن وراءها من مستعمرين؟!

أرى أن هناك خلطا كبيرا بين مفهوم الوطن والأنظمة الحاكمة التي تحتكر الوطن فيها وفي رأسها وتسعى لنشر وترسيخ هذه الفكرة لتختبئ وراء جرائمها وإخفاقاتها بهذا الستار (البروباغاندي) السخيف والذي ينطلي بالمناسبة على الكثيرين.

الوطن هو قطعة أرض حل فيها جزء من تاريخ شخص ما سواء ولد فيه أو انتقل إليه بعد ذلك وعاش فيه فترة من الزمن. هذا هو تعريف الوطن.

في الماضي (قبل أن يتحول الوطن إلى حظيرة) كانت الحدود المفتوحة تتيح للناس التنقل بحرية فكان يولد المواطن في بلد وقد ينشأ في بلد آخر وقد يذهب لطلب العلم في بلد ثالث وربما يستقر به الحال في بلد رابع وكان هذا أمرا عاديا دون أن يبقى محصورا بالموطن الأول، ناهيك عن موطن أبائه وأجداده ، فقد كان ينتسب إلى كلِّ بلد مرَّ به وعاش فيه فترة من حياته دون احتكار نفسه في قطعة من الأرض. لقد كان يطلق على أحدهم: المصري الشامي ثم العراقي طبقا لمراحل حياته المختلفة.

ولم يكن لدى أحدهم تعصب لبلدة على آخرى سوى تلك التي كان يجد فيها راحته وسعادته.

ولذلك انتقلت الشعوب واختلطت القبائل والجماعات العرقية وندر في الوقت الحالي أن تحصر عرقا معينا في مكان جغرافي محدد ويشير إلى ذلك اختبارات DNAالتي يجريها الناس على سبيل التسلية في كثير من الاحيان ويتفاجؤون عند خروج النتائج بأنهم ينتمون الى أعراق وبلاد بعيدة ومختلفة ومتعددة بنسب متفاوتة.

هذه هي طبيعة العالم منذ ملايين السنين.

فمن أين جاء مفهوم (الوطن الحظيرة) إلا بعد هذه الحروب الهمجية وهذا النظام العالمي الفاسد.

هي باختصار مصالح سياسية لنظام عالمي جديد يريد أن يتحكم في البشر ويجعلهم كالأغنام في الحظائر تقاد وتستعبد وتنهب ويتحكم فيها بدون حساب.. هذه هي الحقيقة.

إن الانتماء والتعصب للحظيرة مناف للعلم ومناف أيضا للدين الذي يدعوك أن تكون إنسانا لا يخلد إلى الأرض ورغبك في الهجرة والسير فيها والتعرف على شعوبها وقبائلها بل وأمرك على سبيل الاستحباب أن تتباعد في المصاهرة والزواج.

إن الدين يؤكد لك أنك لا تنتمي لهذا الكوكب بالكلية بل انتماؤك كله لله الذي خلقك .. للسماء.. إن كان لك وطن فهو الجنة..

إن الأرض التي ولدت عليها أو عشت فيها لم يختلط ترابها بدمك حقيقةً كما يدّعون .. هذا كناية عن حب الأشياء التي كان بينك وبينها علاقة فترة من الزمن كبيتك وكتبك وسريرك وألعابك عندما كنت طفلا.

لا تدعهم يخدعونك أن هذا الجماد أهم من دينك وعرضك وحريتك وإنسانيتك .. فإذا انتُهكت ولم تقدر على تغيير واقعك بالجهاد والنضال فليس لك إلا الهجرة وترك هذه البلدة الظالم أهلها .. ارحل ولا تُعِرِ انتباها لتفاهاتهم... هذا عين العقل وعين الدين.

لا تخسر دنياك ولا آخرتك لأجل بروبغاندا سخيفة.

إن واجبك الأول هو التغيير من منطلق دينك الذي يأمرك بهذا وليس من منطلق عاطفة وحب الأشياء، إن الجهاد لتحرير الأوطان واجب إسلامي أولا وقبل كل شيء وقد شرع أساسا حتى يصان الدين والأموال والأعراض، وأن يكون هناك حدّ للظلمة والمجرمين، ولم يكن أبدا من منطلق الوطنية الفارغة، إنه واجبك على هذه الأرض لأنها جزء من ممتلكاتك ليس لأنك جزء من ممتلكاتها.. الدين والإنسان أهم وأولى من الأشياء.. والهجرة أيضا هي وسيلة للمحافظة عليهما.

أما الموت.. فهو في سبيل الله أولا وأخيرا وليس لأجل حفنة من التراب كما يريدون إقناعك.

سبيل الله هو الدفاع عن دينك وعرضك وشرفك وكرامتك، وممتلكاتك أيضا.. هذا أمر الله لذلك فإنك عندما تمتثل له وتضعه نصب عينيك تكون ميتتك في سبيله.

حاول أيها المواطن المسكين أن تكون وطنيا بحق.. و اسع للعودة إلى وطنك الأصلي الذي خلق الله فيه أباك وأمك واطلب من الله العودة إليه بالإيمان به والامتثال لأوامره.

دع عنك تفاهات الإعلام أبواق النُّظم وانْتَمِ لأصلك وهويتك الحقيقة.. العبودية لخالقك العظيم.

لا تتعصب للبلدان ولا للأنظمة فليسوا أفضل منك ولست أفضل من غيرك وكل الناس سواسية كأسنان المشط فإن أردت التميز والعلو فليس لك الا التقوى طريقا.

يا أيها المسكين المتعصب لحظيرته ..استيقظ!! فهذه الأنظمة تلعب بك لتبقى فوق رأسك مستغلة بلاهَتك وتشتتك.

وليكن وطنك كل وطن يذكر فيه اسم الله ويرفع فيه الأذان ويوجد به إخوانك المؤمنون.

ارفع رأسك بين الأمم وافتخر بانتمائك لأمتك العظيمة خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

وطن قوي من اندونيسيا شرقا إلى موريتانيا غربا يمتلك أكبر الطاقات وأعمق الثقافات واغنى الموارد.

أما حظائر الاستعمار وأنظمته الوظيفية فكل هذا جاء خصيصا لكي تبقى ذليلا ممزقا تائها لا هوية لك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين