تقريب الظلال: سورة التحريم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فهذا تقريب سورة التحريم من تفسير: (في ظلال القرآن) لسيد قطب.

عندما جرى قدر الله تعالى أن يجعل الإسلام الرسالةَ الخاتمة، ويجعل منهجَه المنهج الأخير في الأرض، شاملًا كاملًا متكاملًا؛ جرى قدره كذلك سبحانه باختيار رسوله إنسانًا يتمثل فيه هذا المنهج بكل خصائصه وحقيقته، ويكون هذا الرسول بذاته ترجمةً كاملةً لطبيعة المنهج الأخير واتجاهه، وجعل حياته العامة والخاصة كتابًا مفتوحًا لأمته وللبشرية كلها، ليس فيها سرَّاً مخبوءًا، ولا سترًا مطويًا؛ لأنه ليس في نفسه شيء خاص؛ فهو لهذا المنهج كله، فلا يختبئ شيء من حياته صلى الله عليه وآله وسلم، بل حياته المشهدُ المنظور لهذا المنهج، جاء ليعرضه للناس في حياته، كما جاء ليعرضه بلسانه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نقل لنا أصحابه رضي الله عنهم أدق تفصيلات حياته العامة والخاصة، فلم تبق فيها صغيرة ولا كبيرة إلا وقد نقلت لنا، إلى جانب ما نقله لنا القرآن منها.

يطالعنا صدرُ سورة التحريم على حادثة من الحوادث المتعلقة بحياة الرجل الذي كان ينهض بإنشاء أمة، وإقامة دولة، على غير مثال معروف، وعلى غير نسق مسبوق؛ يطالعنا على ما كان بين بعض أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم وبعض، وعلى ما كان بينه وبينهنَّ أيضًا، ثم على ما كان من آثار لهذه الحادثة على المجتمع المسلم وقتها، وما تبعها من توجيهات للأمة بعد ذلك، ولقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خديجة رضي الله عنها، ورزق منها بالولد، وكانت له وزير صدق، ولم يتزوج عليها امرأة حتى ماتت، ثم تزوج بعدها سودة بنت زمعة، وبعدها تزوج عائشة بنت الصديق رضي الله عنها ، ولم يتزوج بكرًا غيرها، ثم تزوج بعدها حفصة بنت عمر رضي الله عنها، وبعدها تزوج زينب بن خزيمة، وتوفيت في حياته،، ثم تزوج أم سلمة، وضم إليه عيالَها من أبي سلمة، ثم تزوج بعدها زينب بنت جحش؛ بعد أن طلقها مولاه زيد بن حارثة، وهي التي كانت عائشة رضي الله عنها تحسُّ أنها تساميها؛ لنسبها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهي ابنة عمته، ولوضاءتها رضي الله عنها، ثم تزوج جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق، وبعدها تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأمهرها عنه نجاشي الحبشة، وبعد فتح خيبر تزوج صفية بنت حيي بن أخطب، وكان آخر من تزوج ميمونة بنت الحارث خالة خالد بن الوليد وابن عباس رضي الله عنهما وعن أزواج رسول الله أجمعين، عاش معهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشرًا رسولًا كما خلقه ربه، استمتع به وأمتعهنَّ من ذات نفسه، ومن فيض قلبه، أما حياته المادية فقد كانت في غالبها كفافًا، وقد سبق في سورة الأحزاب قصة طلبهن الوسعة في النفقة، وما أعقب هذا الطلب من أزمة، انتهت بتخييرهن بين الله ورسوله والدار الآخرة، أو المتاع والتسريح من عصمته صلى الله عليه وآله وسلم؛ فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة.

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)﴾ [التحريم: 1 - 5]، وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة، منها ما رواه البخاري عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشرب عسلًا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها، فتواطأتُ أنا وحفصة على أيَّتُنا دخل عليها فلتقل له: أكلتَ مغافير، إني أجد منك ريحَ مغافير، قال: «لا، ولكني كنت أشربُ عسلًا عند زينب بنت جحش فلن أعود له، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدًا»، ويبدو أن التي حدثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث وأمرها بستره قالت لزميلتها المتآمرة معها؛ فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على الأمر، فعاد عليها في هذا، وذكر لها بعض ما دار بينها وبين زميلتها؛ دون استقصاء لجميعه؛ تمشيَّاً مع أدبه الكريم؛ فدهشت هي وسألته: من أنبأك هذا؟ ولعله دار في خلدها أن الأخرى هي التي نبأته، ولكنه أجابها: «نبأني العليم الخبير»؛ وقد كان من جراء ما كشفه صلى الله عليه وآله وسلم من تآمر ومكايدات في بيته؛ أن غضب وآلى من نسائه شهرًا، وهمَّ بتطليقهنَ، ثم نزلت عليه هذه الآيات؛ فهدأ غضبُه، وعاد إلى نسائه.

ومما ورد في سبب نزول هذه الآيات ما رواه النسائي عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشةُ وحفصةُ حتى حرَّمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل: ﴿يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك﴾ [التحريم: 1] إلى آخر الآية، وجاء في بعض الروايات أن تلك الأمة هي مارية أم ولده إبراهيم رضي الله عنها، وكلا الروايتين يمكن أن يكون هو الذي وقع، وربما كانت هذه الثانية أقربَ إلى جو النصوص، وإلى ما أعقب الحادث من غضب كاد يؤدي إلى طلاق زوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ نظرًا لدقة الموضوع، وشدة حساسيته، ولكن الرواية الأولى أقوى إسنادًا، وهي في الوقت ذاته ممكنة الوقوع، ويمكن أن تحدث الآثار التي ترتبت عليها، وهي إيلاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نسائه، وهمِّه بتطليقهن، الأمر الذي عدَّه أصحابه حدثًا أعظم وأطول من غزو غسان لهم -وغسان هي الدولة العربية الموالية للروم في الشام على حافة الجزيرة العربية- وقد كانوا يتحدثون أن غسان تنحل الخيل لتغزوهم، وقد روى الإمام أحمد أن عمر بن الخطاب صلى الله عليه وآله وسلم لـمَّا راجعته امرأته في الحديث، وأخبرته أن نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يراجعنه في الحديث، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل؛ نزل إلى ابنته حفصة فسألها عن ذلك؛ فقالت نعم، فقال لها: "وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ؟ لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا، وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ..."، فلـمَّا وقعت هذه الحادثة، وآلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نسائه وهجرهنَّ؛ جاءه عمر وهو مغضب لا يكلم أحدًا؛ فسأله: أطلقت نساءك يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا»، ثم أخذ عمر يحدثه ما كان قد كلَّم به حفصة رضي الله عنها؛ حتى تبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

تلك هي روايات الحادث كما جاءت به السير؛ أما القرآن فأول ما يبدأ به عتاب اللهُ لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)﴾، وذلك بعد أن قرر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرمان نفسه من العسل، أو من مارية؛ فجاء هذا العتاب يوحي بأن ما جعله الله حلالًا فلا يجوز حرمان النفس منه عمدًا وقصدًا إرضاء لأحد، وفي قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ دليل على أن هذا الحرمان يؤاخذ به العبد؛ إذا لم تتداركه مغفرة الله ورحمته، وأما اليمين التي حلفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد فرض الله تعالى تحلتها، أي كفارتها التي يحل منها؛ لأنه سبحانه: ﴿مَوْلَاكُمْ﴾ يعرف ضعفكم فلا يوقعكم في الحرج ولا في المشقة، ويشرع لكم من الأحكام ما يناسب طاقتكم، ويصلح لكم فإنه سبحانه: ﴿الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.

ثم تأتي الآيات تشير إلى الحديث، ولا تذكر موضوعه ولا تفصيله؛ لأن المهم فيه هو دلالته وآثاره؛ فتقول: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا...﴾ أطلع الله نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم على ما دار بين زوجيه بشأن ذلك الحديث، الذي أسرَّه إلى بعض أزواجه، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم حين راجعها فيه اكتفى بالإشارة إلى جانب منه؛ ترفعًا منه صلى الله عليه وآله وسلم عن السرد الطويل، وتجمُّلًا منه عن الإطالة في التفصيل، وأنه أنبأها بمصدر علمه فقال: «نبأني العليم الخبير»، والإشارة هنا إلى العلم والخبرة إشارةٌ مؤثرة في حالة التآمر والمكايدات المحبوكة وراء الأستار، تردُ السائلة إلى هذه الحقيقة التي ربما نسيتها، أو غفلت عنها، وتردُ القلوب بصفة عامة إلى هذه الحقيقة كلما قرأت هذا القرآن، ثم تتوجه الآيات إلى المرأتين فتقول: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾ وإذا ما تجاوزنا صدر الآية، ودعوة المرأتين للتوبة والعودة إلى الله تعالى؛ نجد حملةً ضخمةً هائلةً، وتهديدًا رعيبًا مخيفًا، ندرك معها عمق الحادث وأثره في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ حتى احتاج الأمر إلى إعلان موالاة الله وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير؛ ليطيب خاطر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويحس بالطمأنينة والراحة من ذلك الأمر الخطير! ولقد كان الحادث ضخمًا في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا، وعدُّوه أعظمَ وأخطرَ من هجوم غسان عليهم؛ لأنهم كانوا يرون أن استقرار البيت النبوي وسلامه أعظمُ وأكبرُ من كل شان، ثم في معرض التهديد لنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ تذكر الآية صفات النساء اللواتي يمكن أن يبدلَ الله نبيَّه بهن لو طلقهن فتقول: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾، وهي الصفات التي يدعوهنَّ إليها عن طريق الإيحاء والتلميح، فالإسلام: دليله الطاعة، والقيام بأوامر الدين، والإيمان: ينبثق عن هذا الإسلام؛ حين يصح ويتكامل، والقنوت: الطاعةُ القلبية، والتوبة: الندمُ على ما وقع من معصية، وتوجهٌ إلى الطاعة، والعبادة: أداةُ الاتصال بالله، والتعبير عن العبودية له، والسياحة: التأملُ والتفكرُ في إبداع الله، وهنَّ من الثيبات ومن الأبكار، كما أن نساءَه الحاضرات صلى الله عليه وآله وسلم كان فيهنَّ الثيب، وفيهنَّ البكر، ولقد رضيت نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه الآيات، واطمأن البيت الكريم بعد هذه الزلزلة، وعاد إليه هدوؤه بتوجيه الله سبحانه، وهو تكريم لهذا البيت، ورعايةٌ تناسب دورَه في إنشاء منهج الله في الأرض، وتثبيت أركانه.

وبعد ذكر هذا الحادث وما كان له من وقع عميق في نفوس المسلمين؛ يأتي المقطع الثاني في السورة فيهيب بالذين آمنوا ليؤدوا واجبهم في بيوتهم من التربية والتوجيه والتذكير؛ ويَقُوا أنفسهم وأهليهم من النار، ثم يدعوهم إلى التوبة، ويدعو رسولَه صلى الله عليه وآله وسلم إلى جهاد الكفار والمنافقين؛ فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)﴾ [التحريم: 6، 9]، إن المؤمن مكلف بهداية أهله، وإصلاح بيته، كما هو مكلف بهداية نفسه وإصلاح قلبه، وإن تبعتَه على نفسه وأهله ثقيلة رهيبة، وعليه أن يتجه بالدعوة أول ما يتجه إلى بيته وأهله، يؤمن أسرته من داخلها، ويسدُّ كل ثغراتِها؛ قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيدًا؛ وإلا فالنار هناك، وهو متعرض لها هو وأهله، وهي فظيعة متسعرة ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، وعلى تلك النار ملائكة، تتناسب طبيعتهم مع طبيعة العذاب الذي هم به موكلون، فهم: ﴿غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾، وعلى المؤمن أن يحول دون نفسه وأهله، قبل أن تضيع الفرصة، ولا ينفع الاعتذار، فالكفار يعتذرون وهم عليها وقوف؛ فلا يؤبه لاعتذارهم؛ بل يقال لهم: ﴿لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فليس اليوم يومَ اعتذار، إنما هو يومُ الجزاء على ما كان من عمل، وقد عملتم ما تجزون عليه بهذه النار، ثم يبين الله لعباده طريق النجاة والوقاية من هذه النار فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا...﴾، هذا هو الطريق، توبة نصوح، تنصح القلب وتخلصه من رواسب المعاصي، تبدأ بالندم، وتنتهي بالعمل الصالح، وهي التوبة الوحيد المرجوة أن يكفر الله بها السيئات، ويدخلهم بها الجنات، في اليوم الذي يخزي فيه الكفار، ولا يخزي النبي والذين آمنوا معه، لأنهم في كرامة الله، قد جعل لهم نورًا يهتدون به في الزحام المريج، نورًا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم إلى الجنة في نهاية المطاف: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾، وهم في رهبة الموقف وشدته يُلهمون الدعاء الصالح بين يدي الله: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وإلهامهم هذا الدعاء في هذا الموقف علامة الاستجابة؛ فما ألهمهم الدعاء سبحانه؛ إلا وقد جرى قدره بأنه سيستجيب لهم، فأين هذا من نار ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.

على الرجل الذي أُمر أن يَقي نفسَه وأهلَه نارًا وقودها الناس والحجارة؛ أن يدرك تغير الواقع الذي يعيشه عن الواقع الذي نزلت فيه هذه الآيات، وأنَّ عليه أن يبذل جهدًا مضاعفًا عن الجهد الذي كان يبذله المسلم في الجماعة المسلمة الأولى؛ ليبني بيتًا مسلمًا، عليه أن يختار حارسةً لبيته تستمدُّ عقيدتها من الإسلام، ويضحي في سبيل ذلك بالالتماع الكاذب في المرأة، والمظهر البراق للجيف الطافية على وجه المجتمع، عليه أن يختار ذاتَ الدين، التي تعينه على بناء بيت مسلم، وإنشاء قلعة مسلمة، ثم إنه يتعين على الأب والأم بعد ذلك أن يعلموا أن أبناءهم وديعةً في أيديهم، وأن عليهم أن يتوجهوا إليهم بالدعوة والتربية والإعداد قبل أي أحد آخر، وأن يستجيبوا لله وهو يدعوهم: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارًا﴾ حتى تقوم بعد ذلك الجماعة المسلمة، ويكون الإسلام عقيدتَها ونظامَها، وشريعتَها ومنهجَها الكامل، الذي تستقي منه كل تصوراتها، وقيام تلك الجماعة ضرورةٌ وليست نافلة؛ ليراها من يُدْعَون إليها من المجتمع الجاهلي الضال؛ ليخرجوا من الظلمات إلى النور بإذن الله، إلى أن يأذن الله بهيمنة الإسلام، حتى تنشأ الأجيال في ظله، في حماية من الجاهلية الضاربة الأطناب، وقد أرشد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أنشأ المحضن -الجماعة المسلمة- الذي تتم فيه الوقاية من النار إلى جهاد الكفار والمنافقين، الذين يهاجمون هذا المحضن من خارجه ومن داخله، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فجهادهم هو الجهاد الواقي من النار، وجزاؤهم هو الغلظة عليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن المؤمنين في الدنيا، ﴿وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ في الآخرة.

ثم يأتي المقطع الثالث والأخير في السورة، وكأنه التكملة المباشرة للمقطع الأول منها؛ فيتحدث عن نساء كافرات في بيوت أنبياء، ونساء مؤمنات في وسط كفار؛ فيقول: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)﴾ [التحريم: 10 - 12]، إن المأثور في تفسير خيانة امرأة نوح وامرأة لوط، أنها كانت خيانة في الدعوة، وليست خيانة في الفراش، فامرأة نوح كانت تسخر منه مع الساخرين من قومه، وامرأة لوط كانت تدل القوم على ضيوفه، وهي تعلم شأنهم مع ضيوفه! والمأثور كذلك عن امرأة فرعون أنها كانت مؤمنة في قصره، ولا عبرة في تتبع الروايات التاريخية في تحقيق أصل امرأة فرعون هذه؛ إنما العبرة في كل ذلك إبراز مبدأ التبعة الفردية، بعد الأمر بوقاية النفس والأهل من النار، والقول لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزواج المؤمنين كذلك: إن عليهنَّ أنفسهنَّ بعد كل شيء، فهنَّ مسؤولات عن ذواتهن، ولن يعفيَهنَّ من التبعة أنهن زوجات نبي، أو صالحٍ من المسلمين؛ إذ لا كرامة ولا شفاعة في أمر الكفر والإيمان، وأمر الخيانة في العقيدة؛ حتى لأزواج الأنبياء، امرأة نوح، وامرأة لوط، اللتان خانتهما ﴿وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾.

أما امرأة فرعون التي كانت تعيش في قصر أعظم ملوك الأرض يومئذ؛ فلم يصدها طوفان الكفر أن تطلب النجاة وحدها، وتتبرأ من زوجها ومن عمله، ومن القوم الظالمين؛ طالبةً إلى ربها بيتًا في الجنة ﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ استعلت بإيمانها على عرض الحياة الدنيا في أزهي صوره، في قصر فرعون أمتعُ مكان تجد فيه امرأة ما تشتهي، لكنها استعلت عليه كله، واعتبرته شرَّاً وبلاء تستعيذ بالله منه، فصارت نموذجًا عاليًا في التجرد إلى الله سبحانه، واستحقت بذلك هذه الإشارة في كتاب الله الخالد.

﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ...﴾ مثل للتجرد إلى الله تعالى أيضًا، منذ نشأتها كما قصها الله في سور أخرى، وذكرت سورة التحريم من طهارتها أنها: ﴿أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ تبرئةً لها مما رمتها به يهود الفاجرة، ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾ ومن هذه النفخة كان عيسى عليه السلام، كما قصته سورة مريم، ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ وامرأة فرعون ومريم نموذجان للمرأة المتطهرة المؤمنة المصدقة القانتة، يضربهما الله تعالى مثلًا لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمناسبة الحادث الذي نزلت فيه آيات صدر السورة، وللمؤمنات من بعدُ في كل جيل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين