من ملامح النهج السياسي في العصر الراشدي بين الديمقراطية والتغلب

روى الإمام البخاري في صحيحة قصة في شؤون الحكم حدثت في آخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ترسم لنا صورة واضحة عن الفكر السياسي في ذلك العصر الذهبي من تاريخ الإسلام، تبين لنا منهجهم الوسطي في شؤون الحكم بين المنهجين الشائعين اليوم في زماننا، النهج الديمقراطي الذي يدخل كل أحد في شؤون الحكم، والنهج الديكتاتوري الذي يتسلط فيه على رقاب الناس من لا يختارونه ولا يرضونه.. فإلى القصة لعل قبسا من نورها يضيء لنا سبيلا أو يفتح لنا بابا.

روى الإمام البخاريُّ بسنده إلى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وَهْوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا؛ إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلاً أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ لَكَ فِي فُلاَنٍ! يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلاَنًا فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلاَّ فَلْتَةً فَتَمَّتْ! فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: ((إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ)) .

بهذه الكلمات البسيطة يقرر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاعدة كبرى من قواعد السياسة الإسلامية وهي: أن سلطة تنصيب الحاكم للأمة وحدها، مما يترتب على ذلك عدم شرعية الحكام الذين يأخذون السلطة غصبًا دون أن يكون للمجتمع أو لقادته رأيٌ في اختيارهم... ولكن لما أراد عمر أن يخطب وقف في وجهه مستشاره الأمين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال له: (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لاَ يَعُوهَا، وَأَنْ لاَ يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدُمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا!).

وبالفعل رأى عمر رضي الله عنه الصواب في نصيحة مستشاره الأمين فأجَّل الخطبة حتى يرجع إلى المدينة ويتكلم مع أهل الفهم والاختصاص.

وهذا الكلام من ابن عوف وعمر رضي الله عنهما واضح الدلالة على أن من منهج الصحابة الكرام في السياسة ألا يُتَحدثَ بدقائقها أمام عامة الناس.. ثم كان من كلام عمر في خطبته يوم رجع إلى المدينة: ((فَمَنْ بَايَعَ رَجُلاً عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يُتَابَعُ هُوَ، وَلاَ الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلاَ)) فأيما رجل خرج يطلب الحكم بدون مشورة المجتمع وأهل الرأي والحكمة فيه فحقه القتل هو ومن بايعه.

يستفاد من القصة شيئان:

الأول: أن النهج الراشدي في السياسة كان يعطي الحق للأمة في اختيار من يقودها.. وهو مبدأ إسلامي مستمر حتى يوم القيامة قبل أن يكون اختيارا شخصيا أو أداة اجتهادية، فأي شكل من أشكال الحكم التي ليس فيها اختيار لا تصح شرعا. وعلى هذا جرى العلماء في عدم تصحيح ولاية المتغلبين الغاصبين لحق الأمة في اختيار أئمتها، بل وتفسيقهم وعدم قبول شهادتهم، وإجازة ما يحتاج إليه الناس من أفعال ولايتهم لا لصحتها بحسب أصل الولاية وإنما لضرورة إجراء الأحكام وتصحيح المعاملات، كجواز أكل الجيف لضرورة الحفاظ على الأجسام. يقول الإمام ابن حجر الهيتمي: (المتغلب فاسق معاقب لا يستحق أن يبشر ولا يؤمر بالإحسان فيما تغلب عليه بل إنما يستحق الزجر والمقت والإعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله) .

ويقول الإمام أبو حامد الغزالي في بيان وجه الضرورة في إجراء أحكام الفساق: (فإن قيل: فإن تسامحتم بخصلة العلم لزمكم التسامح بخصلة العدالة وغير ذلك من الخصال، قلنا: ليست هذه مسامحة عن الاختيار ولكن الضرورات تبيح المحظورات، فنحن نعلم أن تناول الميتة محظور ولكن الموت أشد منه، فليت شعري من لا يساعد على هذا ويقضي ببطلان الإمامة في عصرنا لفوات شروطها فأيُّ أحواله أحسن؛ أَن يقول: القضاة معزولون والولايات باطلة والأنكحة غير منعقدة وجميع تصرفات الولاة في أقطار العالم غير نافذة، وإنما الخلق كلهم مقدِمون على الحرام؟ أو أن يقول: الإمامة منعقدة، والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار) .

الثاني: يبدو جليا من القصة منهج الصحابة في كراهية الحديث في شؤون السياسة الدقيقة واختيار الحاكم أمام عامة الناس، فالعامة لا يفهمونها بل قد يثيرون الفتن عند سماعها أو يضعون الأمور في غير مواضعها، وإنما المختصون بمناقشة أمور الحكم والسياسة هم طبقة خاصة من المجتمع تمثله وتقوم بأموره وتتمتع بالفهم والعقل والعلم. وهذا النهج خلاف ما شاع عن الديمقراطية التي تدخل كل صغير وكبير في شؤون الحكم.

ويبقى نهج الصحابة في السياسة - ما لم يرد نص شرعي قاطع في مسألة ما – نوعا من الاجتهاديات والمنهجيات البشرية الاجتهادية، ولكنها تمتاز بالنسبة إلى المسلمين عموما والعرب خصوصا بشيئين، الأول: أنها منهجيات ظهرت في بيئة عربية، والبيئة العربية لم تتغير ملامحها الطبيعية منذ القدم، ولهذا فإن ما ورد عن الصحابة من منهجيات ظهرت في البيئة العربية هي الأقرب إلى ما يناسب العرب اليوم، بتقديري، الثاني والأهم: أن اختيارات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم – خاصة في العصر الراشدي - في شتى شؤون الحياة الدنيوية كانت تتغذى بربيتهم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جبلت عليه نفوسهم من طهر وإيمان، فتبقى اجتهاداتهم حاملة لمجموعة من القيم الدينية والأخلاقية السامية التي قد لا توجد في غيرها، وإن لم تكن تشريعا يجب على الناس أخذه أو العمل به.

1- صحيح البخاري – باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، رقم (6442).

2- الصواعق المحرقة” 2/628

3- الاقتصاد في الاعتقاد، الغزالي، ص130.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين