هل الفقهاء معصومون؟

أشد أنواع الجرائم في الإسلام جريمة الحرابة، وعقوبتها (أو حدها) الذي نص عليه القرآن الكريم أشد أنواع الحدود، لأن هذه الجريمة عدوان على النفس والعرض والمال .. وسائر الضروريات التي يقوم بها أمر المجتمعات الإنسانية. ولكن هذا الحد يسقط عن (المحارب) إذا تاب قبل القدرة عليه، كما نصّت على ذلك الآية الرابعة والثلاثون من سورة المائدة. ثم وقفتُ على رأي لبعض أئمة الفقه والاجتهاد- في عصر النهضة في الإسلام- يقيس فيه سائر الحدود على حد الحرابة هذا، ملاحظين في ذلك "أنه أشدها وأغلظها عقوبة"! بمعنى أن عدم القطع في حد السرقة، على سبيل المثال، إن تاب السارق على هذا النحو المذكور، وبغض النظر عن أي إجراءات أو عقوبة أخرى، هو من باب أولى. ووجدتني أعلّق على هذا-في تفسير للقرآن الكريم على هامش المصحف- بالقول: إن فلسفة العقوبة في الإسلام تقوم على قتل الحريمة في النفس وليس على قتل النفس.

قرأتُ هذا على أحد الفضلاء، فقال: إن هذه الفلسفة للعقوبة تمثل فهماً عميقاً لدى بعض الفقهاء أو أئمة الاجتهاد. ولكن ما تقول في رأيهم في دية المرأة أنها نصف دبة الرجل؟ أليست هي نفساً إنسانية كذلك، مثلها مثل الرجل؟ والله تعالى يقول: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس؛، فقلت: المسألة لا يُستشهد عليها بهذه الآية المُحكمة من الكتاب العزيز، والتي تُعد شرعاً لنا كما قال جمهور الفقهاء، لأنها في القصاص أو القتل العمد، وليست في الدية المقررة أو التعويض المالي- إن صح التعبير- في القتل الخطأ. القتل العمد الذي يجب فيه القصاص: المرأة والرجل فيه سواء.. قال العلامة المفسر ابن عطية: "وأجمعت الأمة على قتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل" وقال إمام الحرمين الجويني: "الرجل مقتول بالمرأة، والمرأة مقتولة بالرجل، ولا أثر للذكورة والأنوثة في القصاص" وأضاف: "وإن كانا يؤثران في تفاوت البدل" وقال القرطبي: إن هذا موضع إجماع، كما قال: " وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل" ومع دعوى الإجماع في هذه الآية عدّ بعض العلماء من خالف في هذا، وذهب إلى التسوية بين الرجل والمرأة في الدية .. عدّوه شذوذاً عن الإجماع أو رأي الجماعة؛ قال مكي بن أبي طالب: " ودية المرأة نصف دية الرجل. وهو قول الصحابة والتابعين والفقهاء إلا الشاذ منهم"! وأنا لم أبحث عن صاحب أو أصحاب هذا الرأي الذي أزرى به مكي أو حكم عليه بالشذوذ.

وبغض النظر عن تعليل بعض الفقهاء لهذا التفريق في الدية أو في هذا التعويض، مما لا تقوم به حجة، فإن بعض التعليلات الأخرى تبدو متسقة مع أحكام المرأة في الجهاد ونظام النفقات بوجه عام، وفِي مسألة الدية نفسها، ومن هو الذي يتحملها، أو يدفعها بوجه خاص، فإنه لا خلاف-كذلك، أو في الوقت نفسه- في أن الصبي والمرأة لا يحملان شيئاً من الدية، وهي المسألة المعروفة عند الفقهاء بمسألة العقل، أي الدية التي تتحملها العاقلة (القبيلة أو القرابة) فالصبي والمرأة لا يُكلّفان العمل والكسب، ومن ثم لا يضرب عليهما شيء من العقل، قال الإمام الجويني: " وإن كانوا موسرين" قال: "هذا لا يعرف فيه خلاف" بل إن "الصبيان والنسوان- بحسب عبارته- ممن "يرضخ لهم" أي من الغنائم! أي أنهم يُعطون بدون اشتراك في القتال. وقد تحضر هذه المسألة هنا كذلك، فقد ربط بعض الفقهاء عدم إلزامهم بشيء من العقل بأنهم ليسوا من أهل النصرة بالسيف، بمعنى أن هذا "التناصر" أو التكليف مخصوص بأهل القتال! فهم لا يكلّفون القتال ولا يُلزمون بالبذل .. ولكن يُبذل لهم.

وعلى أية حال، فإن الأمر لا يعدو كونه مسألة مالية، أو قضية تعويض عن خسارة، والمقارنة هنا بين خسارة الرجل الذي يُناط به أمر الإنفاق على المرأة والأسرة - مع إدارته لهذه الأسرة- وخسارة المرأة التي لا تُكلّف الكسب والإنفاق، فضلاً عن سائر المزايا التي تتمتع بها في هذا الباب. ولا صلة لهذا كله بالاضطهاد، أو (بالنصفية) إن جاز التعبير، والتي فُهمت أو فُسّرت بدورها على نحو شديد الفساد في بعض صور الميراث والشهادة! ودع عنك سائر الشبهات والشنشنات!

والسؤال الآن:

هل الفقهاء في اجتهادهم أو في فهمهم للنصوص وتنزيلها على واقع المجتمعات الإسلامية المتعدد عبر الزمان والمكان .. معصومون؟ لا يخفى على مسلم واحد أنهم غير معصومين، وأن العصمة ليست لأحد غير خاتم النبيين .. وأن موته -صلوات ربي وسلامه عليه- كان إيذاناً بانقطاع (الوحي) وانتهاء (العصمة).

أما تراثنا الذي تعاقب على صنعه عبر العصور، علماء ومفكرون وفقهاء ومجتهدون .. فهو يمثل انتماءناوذاكرة أمتنا .. وامتداد شخصيتنا الضاربة في التاريخ .. وعلماؤنا وأعلامنا الكبار الذين صنعوا هذا التراث ليسوا فوق النقد ولكنهم فوق التطاول والهدم! ولطالما تمثل لي الكثير منهم، وأنا أطالع كتب أحدهم في جوف الليل أنني أمام شجرة نخيل باسقة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وأن يد العبث والهدم التي تحاول النيل منه ليست إلا يد جاهل أو حاقد أو مأزووم! أما الذين جعلوا من الهدم والتطاول دينهم وديدنهم .. فإنهم لا يفعلون إلا ما يتناسب مع قصر هاماتهم، وقصور طموحاتهم وهممهم .. وإن شئت قلت، أو أضفت: عللهم و"عقدهم" وأمراضهم. والله المستعان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين