تقريب الظلال: سورة الطلاق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فهذا تقريب سورة الطلاق من تفسير: (في ظلال القرآن) لسيد قطب.

يقف الإنسان مدهوشًا أمام هذه السورة، سورة الطلاق، وهي تبين أحكامه، وتفصل في حالات لم تُفصَّل في سورة البقرة، فسورة الطلاق تبين الوقت الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق الذي يقبله الله تعالى، وتبينُ حقَّ الزوجة في البقاء في بيت الزوجية، لا تَخرج منه ولا تُخرج؛ إلا أن تأتي بفاحشة، وتبينُ حقَّ المطلقة بعد انقضاء عدتها في الخروج لتفعل بنفسها ما تشاء؛ ما لم يكن الزوج قد راجعها فترة العدة، لا عن ضرر ولا إيذاء، وكانت سورة البقرة قد بيَّنت مدة العدة للمطلقة ذات الحيض، وجاءت سورة الطلاق فبيَّنت مدة العدة للمطلقة الآيسة التي انقطع حيضها، وللصغيرة التي لم تحض، ثم بيَّنت حكم المسكن الذي تعتد به المطلقة، ونفقة الحمل حتى تضع، ثم حكم الرضاعة لولد المطلقة حين تضعه، وأُجرتها عليه إن اتفق الزوجان على ذلك، وإلا فسترضع له أخرى، والنفقة في كل ذلك تابعة لحالة الزوج وقدرته، إيسارًا وإعسارًا، وبذلك لم تترك السورة شيئًا من أنقاض الأسرة المفككة بالطلاق إلا أراحته في مكانه، وبيَّنت حكمه، في رفق ووضوح؛ يقف الإنسان مدهوشًا أمام هذا الحشد من الأحكام، وما تبعها من تعقيبات وذكر لحقائقَ كونية كبرى؛ تُشعر القلب بأن هذا الأمر هو الإسلام كلُّه، وهو الدين كلُّه، وهو القضية التي تفصل فيها السماء، وتقف تراقب تنفيذَ الأحكام، مع أن الطلاق حالةُ هدم لا بناء، حالةُ انتهاء لا إنشاء، انتهاء لأسرة لا لدولة، الشيء الذي يوقع في الحسن أنها أضخم من إنشاء دولة! 

إن دلالاتِ تضخيم هذا الأمر كبيرة، وكبيرة جدًا، تجتمع كلها عند سمو هذا الدين وجديَّته، وانبثاقه من نبع غير بشري، إنها تدل على خطورة شأن الأسرة في النظام الإسلامي أولًا، ذلك أن الإسلام نظام أسرة، البيت فيه مثابة وسكن، تلتقي في ظله النفس مع النفس على المودة والرحمة، وفي كنفه تنبت الطفولة، وتدرج الحداثة، ومنه تمتد وشائج الرحمة، وأواصر التكافل، أحاط الإسلام الأسرة بسياج من التشريعات والتوجيهات في كل وضع من أوضاعها، وكل حالة من حالاتها، وكان قدر الله أن تكون أول خلية في الوجود البشري أسرةً، آدم وزوجه، وأن يتكاثر الناس بعد ذلك من هذه الخلية الأولى، وكان الله سبحانه قادرًا على أن يخلق الملايين من الأفراد الإنسانيين دفعة واحدة، ولكن قدره جرى بهذا؛ لأن الأسرة تلبي فطرة الإنسان واستعداداته، وتنمي شخصيته وفضائله، ويتلقى فيها أعمق المؤثرات في حياته. 

وإن من دلالاتِ تضخيم أحكام الطلاق في السورة؛ أن النظام الإسلامي يتجه لرفع العلاقات الزوجية إلى مستوى القداسة المتصلة بالله، ويدعو أبناء الأمة للزواج، ويتخذ من العلاقة الزوجية وسيلة للتطهر الروحي، والنظافة الشعورية، لا كما كان يُنظر إليها في العقائد الوثنية والديانات المحرفة، البعيدة بهذا التحريف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها. 

ومن أعظم دلالاتِ هذا التضخيم لسياق السورة واقعيةُ النظام الإسلامي في تعامله مع الحياة والنفس البشرية كما هي في فطرتها، فالإسلام الذي أحاط العلاقات الزوجية بكل الضمانات التي تكفل لها الاستقرار والاستمرار؛ لم يغفل الواقع الذي يثبت أن هناك علاقات زوجية تتهدم وتتحطم على الرغم من كل تلك الضمانات والتوجيهات، وهي حالات لا بد أن تواجه مواجهة عملية؛ اعترافًا بمنطق الواقع الذي لا يجدي إنكاره حين تتعذر الحياة الزوجية، ويصبح الإمساك بها عبثًا لا يقوم على أساس، ومع هذا الاعتراف لا يعمد الإسلام إلى تلك العلاقة فيفصمها لأول بادرة خلاف؛ بل إنه يشد رباط الزوجية، ولا يدعه يفلت إلا بعد المحاولة واليأس، ويسلك في سبيل ذلك طرقًا ووسائلَ شتى، فتراه يهتف بالرجال: ﴿وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ويفتح لهم النافذة المجهولة: ﴿فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ فما يدريهم أن في هؤلاء النسوة المكروهات خيرًا لا يجوز أن يفلتوه، ثم إن تعدى الحال مسألةَ الحب والكراهة إلى النشوز والنفور؛ لا يعمد إلى الطلاق، بل لا بد من محاولة يقوم بها آخرون ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ، وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾ فإن لم تجدِ هذه الوساطة؛ فالأمر إذن جد، لا تستقيم معه حياة، والاستمرار فيها محاولة فاشلة، لا يزيدها الضغط إلا فشلًا، ومن الحكمة التسليم بالواقع، وإنهاء هذه الحياة على كره من الإسلام، فإن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، ثم إن أراد أن يطلق فليس في كل لحظة يجوز الطلاق، إنما وقته وأحكامه كما جاءت بها هذه السورة.

ومن دلالات تضخيم أمر الطلاق في هذه السورة أيضًا؛ أن السورة كانت تواجه حالات واقعة في الجماعة المسلمة متخلفة من رواسب الجاهلية، وما كانت تلاقيه المرأة؛ مما اقتضى هذا التشديد، وهذا الحشد والتفصيلات الدقيقة، التي لا تدع مجالًا للتلاعب والالتواء مع ما كان مستقرًا في النفوس من تصورات متخلفة عن علاقات الجنسين، ومن تفكك وفوضى في الحياة العائلية، سواء في شبه الجزيرة أو في غيرها من العالم يومذاك، الذي كان ينظر إلى العلاقات الجنسية نظرة استقذار، وإلى المرأة كأنها شيطان يغري بهذه القذارة، فمن هذه الوهدة العالمية ارتفع الإسلام بالمرأة، وبالعلاقات الزوجية إلى المستوى الطاهر، وجعل للمرأة اعتبارًا وقيمة، وحقوقًا وضمانات، فهي وليدة لا توأد، ومخطوبة لا تنكح إلا بإذنها، وزوجة لها حقوق ورعاية، ومطلقة لها حقوق مفصلة في هذه السورة، وفي سورة البقرة.

بعد هذا الاستطراد نستعرض الأحكام في سياق السورة، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1]، هذا أول حكم في السورة، يوجه الخطاب به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، ثم يظهر أن الحكم خاص بالمسلمين، لا بشخصه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ﴾، وهذا النسق من التعبير يوحي بأن الأمر جدٌ وذو بال، ينادي الله به نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم ليلقي إليه أمره فيه، كما يبلغه من وراءه ﴿إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ وقد روى البخاري حديثًا في معنى هذه الآية أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما طلق امرأةً له وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: «ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل»، ورواه مسلم ولفظه: «فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء»، ومن ثم تعيَّن أن هناك وقتًا معينًا لإيقاع الطلاق، وهو أن تكون المرأة في حالة طهر من حيض لم يقع فيه جماع، أو أن تكون الزوجة حاملًا بيِّنة الحمل، واشتراط الطهر بلا وطء؛ للتحقيق من عدم الحمل، واشتراط تبيُّن الحمل؛ ليكون الرجل على بصيرة من أمره، وهذه أول محاولة لرأب الصدع في بناء الأسرة، ومحاولة دفع المعول عن ذلك البناء، ثم قال: ﴿وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾ حتى لا يطول الأمد على المطلقة فيضرَّ بها، ويمنعَها من الزواج بعد العدة، أو يقع النقص الذي لا يتحقق به التأكد من براءة الرحم من الحمل، وهذا الضبط الدقيق يوحي بأهمية الأمر، ومراقبة السماء له، ومطالبة أصحابه بالدقة فيه.

ثم يأتي أول تنبيه في السورة؛ بعد الوصية بتقوى الله تعالى: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، فلا تَخرج المطلقة من بيت مطلقها، ولا تُخرج منه؛ إلا إذا زنت فتُخرج للحد، أو نشزت على الزوج، وذلك لإتاحة الفرصة للرجعة، ولاستثارة عواطف المودة، وذكريات الحياة المشتركة، ثم يأتي الحذير الثاني في السورة ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ إنَّ الحارس لهذا الحكم هو الله، وأي مؤمن يتعرض لحد يحرسه الله فقد ظلم نفسه إذ عرضها لبأس الله القائم على حدوده يحرسها ويرعاها، ثم تأتي اللمسة الموحية، التي يلوح منها الأمل والرجاء ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً﴾ النفس البشرية قد تستغرقها اللحظة الحاضرة، فتغلق عليها منافذ المستقبل، فتعيش في سجن اللحظة الحاضرة، وتشعر أنها سرمدٌ، وأنها باقيةٌ، وليست هذه الحقيقة، فقدر الله دائمًا يعمل، ودائمًا يغير ويبدل، وينشئ ما لا يجول في حسبان البشر من الأحوال والأوضاع، ويريد الله لهذه الحقيقة أن تستقر في نفوس البشر؛ لتبقى أبواب الأمل في تغير الأحوال مفتوحة دائمًا، ولتظل نفوسهم متحركة بالأمل، ندية بالرجاء... ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً﴾.

ثم تأتي المرحلة الثانية ويأتي حكمها: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)﴾ [الطلاق: 2، 3]، للزوج ما دامت المطلقة لم تخرج من العدة أن يراجعها فتعود إلى عصمته بمجرد مراجعتها، وإن هو ترك العدة تمضي فبانت منه؛ لم تحلَّ له إلا بعقد جديد كالزوجة الجديدة، وفي كل حال هو مأمور بالمعروف، منهي عن المضارة بالرجعة، كأن يعمد إلى إطالة أمد العدة بمراجعتها قبل انتهائها ثم طلاقها، أو بتركها كالمعلقة لتفدي نفسها منه، وهذا ما يزال يقع كلما انحرفت النفوس عن الضامن الأول لأحكام المعاشرة والفراق وهو تقوى الله تعالى، وفي حالتي الفراق أو الرجعة تُطلب الشهادة على هذه وذاك، شهادة اثنين من العدول قطعًا للريبة، فقد يعلم الناس بالطلاق ولا يعلمون بالرجعة؛ فتثور الشكوك، والإسلام يريد الطهارة لهذه العلاقة؛ ولذا قال: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ ولـمَّا كان المخاطبون بهذه الأحكام هو المؤمنون؛ استجاش الله الإيمان في قلوبهم للعمل بهذه الأحكام فقال: ﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، وإذا ما خيم شبح الفقر على الزوج، وظن أنه سيقع في الضيق؛ جاءت اللمسة الحانية تقول: إن تقوى الله هي المخرج من كل ضيق في الدنيا والآخرة، وهي سبب للرزق من حيث لا يقدر، ولا ينتظر ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، ولـمَّا كان مجال الكيد واسع في مثل هذه العلاقة، وقد تؤدي محاولة اتقاء الكيد إلى الكيد؛ أرشد الله عباده إلى التوكل عليه سبحانه، وهو كافٍ لمن يتوكل عليه، لأنه القادر القاهر، الفعال لما يريد ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.

لـمَّا بينت سورة البقرة مدة العدة لذات الحيض؛ بقي حكم من انقطع حيضها، والتي لم تحض لصغر أو لعلة موضعُ لَبس؛ فجاءت الآيات في هذه السورة تبين مدة عدتهما فقالت: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)﴾ [الطلاق: 4، 5]، حددت الآيات أن مدة عدة هؤلاء وهؤلاء ثلاثة أشهر؛ لاشتراكهن في عدم الحيض الذي تحسب به العدة، أما الحوامل فجعل عدتهن هي الوضع، طال الزمن بعد الطلاق أم قصر؛ لأن براءة الرحم بعد الوضع مؤكدة، فلا حاجة إلى الانتظار، ثم أعقبت السورة هذه الأحكام بلمسات وتعقيبات فقال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ وهذا إغراء باليسر في قضية الطلاق مقابل اليسر في سائر الحياة، وإنها لنعمة كبرى أن يجعل الله الأمور كلها ميسرة لعبد من عباده، فلا عنت ولا مشقة، ولا عسر ولا ضيقة، حتى يلقى الله تعالى، واللمسة الأخرى لمسة الجد والانتباه إلى مصدر الأمر ﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ﴾، أنزله للمؤمنين به، فطاعته تحقيق لمعنى الإيمان، ولحقيقة الصلة بينهم وبين الله، ثم يعود إلى التقوى التي يدق عليها دقًا متواصلًا فيقول: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً﴾ وقد كانت الأولى تيسيرًا للأمور، وجاءت هذه الثانية تكفيرًا للسيئات، وإعظامًا للأجر بعد التكفير.

ثم يأتي البيان الأخير لتفصيل مسألة الإقامة في البيوت، والإنفاق في فترة العدة ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)﴾ [الطلاق: 6، 7]، أمر المطلق أن يسكن مطلقته مما يجد هو من سكنى، ولا يعمد إلى مضارتها، وخص أولات الحمل بالنفقة -مع أنها تجب لكل مطلقة- لتوهم أن طول مدة الحمل يحدد زمن النفقة ببعضه دون بقيته، فأوجبها حتى الوضع، ثم فصل مسألة الرضاعة فلم يجعلها واجبًا على الأم بلا مقابل، بل من حقها أن تنال أجرًا على رضاعته، تستعين به على حياتها، وعلى إدرار اللبن للصغير، وفي الوقت ذاته أمر الأب والأم أن يأتمرا بينهما بالمعروف في شأن هذا الوليد، حتى لا يكون فشلهما هما في حياتهما نكبة على الصغير البريء، وأما إذا تعاسرا، ولم يتفقا بشأن الرضاعة وأجرها؛ فالطفل مكفول الحقوق: ﴿فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى﴾ دون اعتراض من الأم، أو تعطيل لحق الطفل في الرضاعة، ولا جورَ في مقدار تلك النفقة من الرجل، ولا تعنتَ من المرأة، بل تعاون ويسر، من وسع الله رزقه ينفق عن سعة في المسكن والمعيشة والرضاعة، ومن ضُيق عليه فلا حرج عليه ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ والله هو المعطي، ولا يطالب أحدًا أن ينفق إلا في حدود ما آتاه، ثم تأتي لمسة الإرضاء والرجاء ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ فالأمر منوط بالله في الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر؛ فأولى لهما إذن أن يعقدا به الأمر كله، وأن يتجها إليه بالأمر كله، وأن يراقباه ويتقياه والأمر كله إليه.

ولـمَّا انتهت السورة من تناول سائر أحكام الطلاق ومتخلفاته، وتتبعت كل أثر من آثاره؛ حتى انتهت إلى حل واضح، ولم تدع من البيت المتهدم أنقاضًا ولا غبارًا يملأ النفوس ويغشى القلوب؛ لـما انتهت من ذلك ساقت العبرة الأخيرة في مصير الذين عتوا عن أمر ربهم ورسله، ولم يتقوا، ولم يطيعوا؛ فقالت: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)﴾ [الطلاق: 8 - 11]، إن أخذ الله تعالى للقرى التي عتت عن أمره، ولم تسلم لرسله سنةٌ متكررة، توقفنا السورة على تلك السنة بعد أن تحدثت عن الطلاق وأحكامه؛ لتربط الطلاق وأحكامه بهذه السنة الكلية، ولنعي أن أمر الطلاق ليس أمرَ أُسَرٍ أو أزواج، إنما أمرُ الأمة المسلمة كلها، فهي المسؤولة عن أمر الله هذا، وعن شريعة الله كلها، وما مخالفتها لشريعة الله، أو لمنهجه الأخير في الأرض؛ إلا عتو عن أمر الله، لا يُؤاخذ به الأفراد الذين يخالفونه فقط، وإنما تُؤاخذ به القرية، أو الأمة التي تقع في المخالفة؛ لأن هذا الدين جاء ليطاع، ولينفذ كله، وليهمن على الحياة كلها، ومن عتا عن أمر الله، ولو في أمر من الأمور الشخصية؛ فقد تعرض لما تعرضت له القرى من سنة الله التي لا تتخلف أبدًا، وقد ذاقت القرى التي عتت عن أمر الله وبال أمرها في الدنيا، وكان عاقبة أمرها خسرًا، وفوق ذلك ينتظرها العذاب الشديد في الآخرة ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ وفي مواجهة هذا الإنذار ومشاهده الطويلة؛ تهتف السورة بأولي الألباب ليتقوا الله الذي أنزل لهم الذكر فتقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾ ثم تجسم السورة هذا الذكر فتجعل شخصَه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم هو الذكر فتقول: ﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾ وذلك بعد أن استحالت شخصيةُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرًا، وترجمةً حية لحقيقة القرآن، وهكذا وصفته عائشة رضي الله عنها فقالت: «كان خلقه القرآن»، وفوق هذا الذكر، وهذه الهداية؛ وعدٌ بنعيم الجنات، خالدين فيها أبداً، ثم تلمس الآيات نقطة الرزق مرة أخرى، وتهون بها من رزق الدنيا الذي وعدت به سابقًا فتقول: ﴿قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾.

وآية الختام تربط موضوع السورة بقدر الله وقدرته في المجال الكوني العريض: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12]، إن القلب ليقف وجهًا لوجه أمام مشهد من مشاهد قدرة الخالق، وسعة ملكه وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ فتصغرْ أمامه هذه الأرض كلُّها، فضلًا على بعض ما فيها، فضلًا على حادث من أحداثها، فضلًا على دريهمات ينفقها الزوج، أو تتنازل عنها الزوجة، وبين هذه السماوات السبع والأرضين السبع يتنزل أمر الله، فهو أمر هائل إذن، ومخالفتُه مخالفةٌ لأمرٍ تتجاوب به أقطار السماوات والأرضين، ويتسامع به الملأ الأعلى، فهي مخالفة بلقاء شنعاء، لا يقدم عليها من جاءه رسول يتلو عليه آيات الله مبينات، ليخرجه من الظلمات إلى النور، والأمر الذي يتنزل بين السماوات والأرض ينشئ في قلب المؤمن عقيدةً أن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء، ولا يندُّ عن علمه شيء، وإن الله المحيط بكل شيء هو الذي يأمر بهذه الأحكام التي جاءت بها السورة، وأنها أحكام موكولة إلى الضمائر التي تشعر بأن الله محيط علمه بكل شيء ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ فيحملها ذلك الشعور على الانقياد لها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين