عَظَمةُ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم مجمع العَظَمات (5) والأخيرة

أمور أساسية في طريق تكوين الجيل القيادي:

إنَّ تكوينَ الجيلِ القيادي الصالح لخلافة الرجل العظيم في الحفاظ على ما بني، وتنفيذ ما خُطِّط، ومُتابعة دعوته واستمرار حياتها من بعده ليس بالأمر الهيِّن، بل هو أشقُّ وأهمُّ أعمال العظماء. وبه تتميَّز درجات العظمة. فهو يحتاج إلى بصيرة وحكمة ومعرفة بطبائع الناس وأخلاقهم، وحسن تحليل للمواقف والظروف والمناسبات التربويَّة، وإلى فراسة قويَّة في تحليل الأفراد ومَعْرفة قابلية كل منهم، ثمَّ إلى قوة حُجَّة وقدرة على الإقناع، لأنَّ القناعة العميقة هي الأساس لصدق الالتزام بالمبادئ والأفكار، وللدفاع عنها بإخلاص وتفانٍ وللتضحية في سبيلها.

وقد أوتي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من كل هذه الخصائص مجتمعة ما لم يتوافر في غيره ويبرز في طريق تربية الأجيال القياديَّة ثلاثة أمور هي من الأهميَّة بمكان: 

(1) العناية بتكوين الفرد، وعدم الاكتفاء بالتوجيه الجماعي الجماهيري، فإنَّ من المقرَّر أنَّ التربية البنَّاءة ذات الحصيلة الثابتة في تكوين الجيل الصالح هي التي تبني الأفراد فرداً فرداً، لأنَّ الفرد إذا نشأ نشأة سويَّةً واعية مضمونة الاتجاه السليم السديد كان هو نواة ذات نتاج صالح موجَّه وتأثير كثير في أسرته وفي غيرها من الرفاق والمحتكين وذوي العلاقة والتكتلات العادية، وفي شتى المناسبات. 

وصلاح الجماعات الكبرى إنما هو بصلاح الأفراد الذين تتكوَّن منهم، والعكس بالعكس، کالبنيان فإنَّ قوته بقوَّة أساسه ولبناته. لا بشكله الجميل الظاهري وحسن هندسته الخارجيَّة. 

(2) حسن اغتنام الفرص التربوية، والظروف المناسبة التي يكون فيها التوجيه والموعظة والتوعية أبلغ، والاستعداد النفسي للتلقي أكبر. فكم من فرق بين أن يُراق ماء السقاية على صخرٍ لا يتسرَّب إلى داخله الماء ولا يتشرَّبه وبين إلقاء هذا الماء على تُربة مُتعطِّشة فتشربه بِنَهَمٍ وتسترطب به. 

هذا مثل ما يُلقى من التربية والتوجيه في المناسبات والظروف الملائمة للتلقي والتقبل، أو غير الملائمة. 

وكلا هذين الأمرين. أعني الاهتمام بالفرد واغتنام أحسن المناسبات للتوعية، كانا من أبرز ما يلحظه الدارس لطريقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في التوجيه والتربية، وشواهده في السيرة والسنَّة النبويَّة مُستفيضة. 

من ذلك مثلاً: قصة الرجل الذي رآه يسأل الناس الصدقة في المسجد وهو قادر على العمل. فسأله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عمَّا لديه في بيته، فلم يكن لديه سوى حِلْس (بساط) يفترشونه ويتلحَّفونه، وقدح من خشب يشربون به، فأمره صلى الله عليه وآله وسلم بإحضارها وباعها بالمزاد بدرهمين، وأمره أن يَشْتري بأحد الدر همين طعاماً لأهله، وبالآخر قَدُّوماً فيحتطب به من البريَّة، ويعود إليه بعد خمسة عشر يوماً. فلما عاد كان قد وفَّر ما باع من الحطب بعد نفقته ونفقة عيالة خمسة عشر درهماً. 

فعندئذ (لا قبل ذلك) لقَّنه الدرس النافع البليغ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم له: (هذا خيرٌ لك من أن تأتي يوم القيامة والمسألة - أي طلب الصدقة- نكتة سوداء في وجهك) [ سنن ابن ماجه في باب بيع من يزيد]. 

(3) التوجيه إلى التزام المداومة على العمل الواجب وكل عمل مطلوب بنَّاء. 

والمقصود بالمداومة ليس هو الدأب الشاق، بل عدم الانقطاع، لأنَّ العمل الدائم، وإن قلَّ ما يؤدَّى منه في المرة الواحدة، هو الذي يُعَوَّل على حصائله المستمرَّة، بعكس العمل الدافق الذي يحصل من فورة قويَّة لا يمكن دوامها، إذ تكون نتيجته الحتميَّة هي الانقطاع والزوال. 

وهذا ما نبَّه إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (أحبُّ الأعمالِ إلى الله ما داوم عليه صاحبُه، وإن قلَّ). ذلك أنَّ المداومة تجعل من القليل كثيراً كثيراً، فالجبال إنما تتكوَّن من حبَّات الرمال، والبحار من قطرات الماء.

هذا، وأخيرا: طلع على العالم قبل عامٍ تقريباً كتاب العالم الأمريكي (مایکل هارث) الذي اختارَ فيه أعظم مائة شخص ممن ظهروا وأثَّروا في التاريخ، ورتَّب ذکرهم في كتابه هذا بحسب مرتبة كل منهم في مِقْياس العظمة الذي بنى عليه المؤلف تقديره، وكتب خلاصة عن كل منهم تُبيِّن وجهَ عظمته، والسبب الذي جعله يضعه في المرتبة التي وضعه فيها.

وقد جعل المؤلف اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رأس قائمة المائة واعتبره أعظم العظماء في تاريخ البشريَّة. وقد دلَّ الكتاب على سعة اطلاع المؤلف ودِقَّة تحليله إلى درجة تثير التعجُّب والإعجاب.

ولكنَّ ما صنعه المؤلِّف المذكور هو غير هدفنا في هذا البحث. وذلك لأنَّه كما صرَّح نفسُه به - لم يتَّخذ قيمة الأعمال التي أتى بها هؤلاء المائة، وكمالاتهم الشخصيَّة مِقیاساً لعظمتهم، فلم يشأ أن يدخل في باب هذا التقويم لصعوبته ووعورته ومشكلاته، - فيما يبدو - وإنما نظر إلى درجة التأثير الذي أحدثه الشخص في العالم، ومدی دخله هو في هذا التأثير وسعته، سواءً أكان ما أتى به خيراً للبشريَّة، أو شراً في الحقيقة والواقع.

فمحمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم انطبق عليه مقیاس هذه الناحية من العظمة وكان له فيها القسط الأكبر، فكان فيها أعظم العظماء.

لكننا أردنا بهذا البحث أن نعرض العظمة في مُقوِّماتها الذاتيَّة لا في درجة تأثير العظيم فقط، وأن نقوِّم ما تتكوَّن منه عناصرها في المقياس الصحيح للحياة الإنسانيَّة المثاليَََََََََََََََََََََّة التي لا انحراف فيها ولا مساوئ، لتكون نموذجاً يُحتذي للكمال البشري والحياة الصالحة الخيرة، وهذا ما وجدنا أنَّ نبيَّنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد استجمع فيه دعائم العظمة كلها مما تفرَّق وتوزَّع بين عظماء البشر، فكانت عظمته صلى الله عليه وآله وسلم جِماع العظمات من الوجهة الواقعيَّة التاريخيَّة، وإن لم ينظر إلى صفة النبوَّة التي ألقاها الله تعالى عليه وأيَّده بها في عقيدة المسلمين.

فالعظيم من رجال التاريخ إنما يشتهر غالباً في ميدانٍ واحد أو اثنين من ميادين العظمة، فقد يَشتهرُ أحد الفاتحين بفتحه، أو أحد الشجعان بشجاعته أو أحد المخترعين بفرط ذكائه الاختراعي، أو أحد العلماء الحفَّاظ بوفور علمه وحفظه، أو أحد الأسخياء الأجواد بفرط أريحيَّته وجوده، أو أحد الخطباء ببراعة بديهته وبلاغته، إلى غير ذلك. 

على أنَّ كثيراً من هؤلاء العظماء أو في بقية النواحي التي ليس لهم فيها تبریز وشهرة، فيكون الخطيب البليغ جباناً شحيحاً، ويكون الفاتحُ الشجاع ظالماً مُنتهكاً للحرمات والأموال والأعراض، ولكنَّه لمعت فيه مزيَّة واحدة أورثته شهرة غطَّت معايِبَه الأخرى وصرفت الأنظارَ عنها وفقاً للقانون النفسي في توجيه أنظار الرائين وانتباههم.

أمَّا أن يكون المرءُ عظيماً في الشجاعة، عظيماً في الحرب، عظيماً في السلم عظيماً في العدل، عظيماً في الصدق، عظيماً في العقل وفي الحزم والحكمة والتدبير، عظيماً في الأخلاق الشخصيَّة ظاهراً وباطناً في السر والعلن. 

عظيماً في العلم، عظيماً في الجود وفي الزهد وفي التجرُّد والإخلاص والإيثار وحبِّ الخير للغير، عظيماً في معرفة داء الحياة ودوائها، عظيماً في البلاغة وجوامع الكلم، عظيماً في التشريع والقضاء، إلى غير ذلك من مَيادين العظمة، بحيث يكون هو الشاب المثالي، الأمين المثالي، التاجر المثالي، الصديق المثالي، الزوج المثالي، الأب المثالي، ثم القائد المثالي، المحارب المثالي، المربي المثالي، فإنَّ مثل هذه العظمة الشاملة هي فوق مَراتب العظماء. إنَّها عظمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم و ﴿ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400هـ، الجزء الخامس ص225-267

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين