لا تحزن إنّ الله معنا

خرج رجلان يسيران في ظلمة الليل يتواريان عن عيون ترصدهما قد جعلت لها مئة ناقة لمن يأتي بأحدهما حياً أو ميتاً.

بعد أن فشلت كل المحاولات والمؤامرات لإخماد دعوته وإسكات صوته بدءاً من إغرائه بالملك والمال والنساء إلى استعداء عمه وأهله وعشيرته عليه، ثمّ مقاطعتهم وإلجائهم إلى شعب من شعاب مكة، وحرمانهم من كل مقومات الحياة فيه، ثم اجتماع الملأ في دار الندوة وقرارهم الصارم بالقضاء على محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، عن طريق اغتياله وقتله بسيوف فتية قوية مختارة من كل قبائل قريش ليضيع دمه بين القبائل، فلا يستطيع بنو هاشم مجابهة كل قبائل قريش.

إنها سنة الله في الأرض صراع أبدي بين الحق والباطل (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(1) لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم موقن بنتيجة هذا الصراع وأن الغلبة في النهاية ستكون لله ولرسوله، (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(2) 

أجل أحبطت المعية الإلهية كل هذه المؤامرات، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق إلى غار جنوب مكة المكرمة (غار ثور)، يتواريان به عن عين القوم، وما كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه، يستقران في الغار، حتى كانت جحافل الطلب القرشي التي خرجت في إثرهما لتردهما إلى مكة وزعمائها من الكفار، لينالوا من رسول الله، ويثنوه عن دعوته ورسالته، قد وصلت إلى باب الغار، رفع سيدنا أبو بكر نظره إلى الأعلى فبدت له أقدام القوم على باب الغار، فالتفت إلى رسول الله خائفاً يبكي 

ـ فداك أبي وأمي يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موقع قدمه لرآنا، ويرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم نظره إلى صاحبه 

ـ لا تحزن إنّ الله معنا. 

ـ يا أبا بكر؛ ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ 

إنه الإيمان بالله، والثقة بوعده. 

وهل كانت هذه الثقة إلا نتيجة إيمان عميق بالله سبحانه، وتصديقاً بوعده لرسوله بالنصر والتمكين: (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(3) ، هذه الثقة، وهذا الإيمان الذي استقر في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهر مبكراً في أوائل عهد الدعوة، عندما جاءه خبيب بن الأرت فشكى له ما يلاقي هو وأصحابه من الأذى والاضطهاد على يد المشركين، يقول خبيب : شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ متَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَينِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)(4)

هذه الثقة جعلته يجيب عمه أبا طالب رداً على العروض المغرية التي قدمتها قريش لتثنيه عن السير في دعوته إلى الله، وتبليغ رسالته: (والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)(5)

أجل لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاملاً، فيطلب بهذه الدعوة ملكاً أو مكانة أو منزلة في قومه، فهو من أشراف قريش وزعمائها، ولم يكن فقيراً يبتغي المال والغنى ويحرص على رخاء العيش ورفاهيته، بل كان من سراة قريش وتجارها، ولم يكن متطلعاً للنساء فزوجته من أحسن نساء قريش شرفا وجمالاً وثراء، لكنه مؤمن بما يدعو واثق بنصر الله له

فهل كان لهذا الإيمان وهذه الثقة بنصر الله له لتصرفه عن الأخذ بالأسباب المادية لتحقيق هذا النصر الموعود. 

ما كان الله سبحانه ليعمي أبصار المشركين، وقد خرج من بينهم ونثر التراب على رؤوسهم، ثمّ يصرفهم عن باب الغار مترددين حائرين، وقد كادوا يبصرونه لو نظروا إلى موضع أقدامهم، وما كانت قوائم فرس سراقة لتسيخ في الأرض، لو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ بكل الأسباب المادية التي يجب على المؤمن أن يأخذ بها، ثمّ التجأ بعدها إلى الله بالدعاء، وأحسن التوكل عليه. 

أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاحبه أبا بكر بعزمه على الهجرة بسرية تامة، وأمره أن يكتم هذا الخبر عن أقرب الناس إليه، ليعد لها أبو بكر عدتها، ويهيئ الرواحل وحوائج السفر، ويستأجر الدليل المؤتمن الخبير بالطرقات، الماهر في مراوغة الأعداء والإفلات من عيونهم وجواسيسهم، وأمر علياً أن ينام في فراشه، زيادة في الحيطة وتضليل الأعداء، وأمر عبد الله بن أبي بكر أن يأتيهما في الغار ليلا بأخبار قريش، ويغادرهما في عتمة الليل ليظن المشركون أنه بات في مكة ، ثمّ يأتي عامر بن فهيرة مولى سيدنا أبي بكر بأغنامه بعد عودة عبد الله بن أبي بكر من الغار، فيطمس أثر مسيره، ليخفيه عن قريش إذا تتبّعته. 

وهذه أسماء بنت أبي بكر ـ ذات النطاقين ـ التي شقّت نطاقها، وربطت بقطعةٍ منه زاد وطعام النبيّ ووالدها في سفرهما، تطمّن جدّها أبا قُحافة الذي خاف أن يكون والدها أبا بكر قد خرج بكل ماله، فجمعت حجارة، وغطّتها بثوبٍ، وجعلت جدّها يتحسّسها إذ كان كفيف البصر، ليطمئنّ إلى أن ولده أبابكر لم يأخذ كل ماله، ويترك عياله بلا نفقة.

بعد كل هذا الأخذ بالأسباب، وهذا التخطيط المحكم لهجرته صلى الله عليه وسلم، أجاب النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه بـ (لا تحزن إن الله معنا)

لقد كان من أيسر اليسير على الله أن ينصر نبيه، ويجعل كفار قريش يستجيبون لدعوته، ويهيئ له هجرة سهلة دون خوف ولا حزن ولا عناء وأن ينتشر هذا الدين في أصقاع الأرض بكلمة واحدة منه سبحانه (كن) فيكون، ولكنها سنة الله في المدافعة والأخذ بالأسباب، وأن النصر وتحقيق الغايات ونشر الدعوة لا يكون إلا بعاملين متلازمين هما إعداد العدة والأخذ بالأسباب، ثم بالالتجاء إلى الله ودعائه وصدق التوكل عليه.

1 الحج، 40 

2 المجادلة ، 21 

3 المجادلة ، 21 

4 رواه البخاري

5 الروض الأنف 3/46

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين