فوائد من مجالس السماع والرواية (3)

المواظبةُ على حضورِ مجالسِ السّماعِ والرّوايةّ من الأمورِ المُهمّةِ لطلَبةِ العلمِ لتَضمّنها الفوائدَ ، وتُعطي تَّصوراً كبيراً وعِلماً غزيراً عن المَتنِ والسَنَدِ ، وضَبطِ ما يتعلّقُ بهما من الألفاظِ والاسماءِ والكُنى والالقابِ وأو جُه الاعرابِ واختلاف الرّوايات مع ما فيها من الفَرائد 

الخاطرة العاشرة : خاطرةٌ بين يَدَي سَماع ( العقيدة الطّحاوية ) للإمام أبي جَعفر الطّحاوي ( ت: 321هـ ) 

عَقد شيخُنا الدكتور عبدُ الحكيمِ محمّد الانيس - حفظهُ اللهُ- مَجلساً لسماعِ كتابٍ نفيسٍ ، وهو للعقيدة تثبيتٌ و تأسيسٌ ، عصرَ يومِ الجُمعة 24/ذو الحَجّة/ 1441هـ الموافق 2020/8/14 م 

وقد خَطَر لي : أنّ مُعظم الدّارسين على مرّ السنين يُواظِبون على قراءة المُتون في مُختلَف الفُنون ، ويجتهدون في النّظر في مَباحثها ، وحِفظ ألفاظِها ، والبحثِ في خَبايا زواياها ، والوقوفِ على النُّكَتِ والفرائد التي وردتْ فيها ، ويَعيشون بذلك سعادةً وحضوراً ، وفرحاً وسُروراً .

ولكن من المهمّاتِ الغائبةِ عن الدّارسين عدمُ معرفةِ الخَريطة الذِّهنية للمؤلِف والمؤلَف الذين يدرسونهما ، وأخْذِ التّصورِ الكامل عن الكِتابِ ، وضَبطِ اسمِهِ وعِنوانِه ، وتحقيقِ صحّةِ نِسبته ، والاطّلاعِ على الشُّروحِ والحَواشي والتّعليقاتِ والانْظامِ التي أحاطتْ بالكتابِ والفوائد التي ذُكرتْ فيه 

ولعلّ من أسبابَ ذلك : 

١- قَصد الاساتذةِ ايضاحَ كُنوز الكتابِ للدّارس ، والسَعي الحثيثِ الى إكمال المنهجِ العلمي بالتسلسُل المَعرفي . 

٢- عدّ ذلك من المكمّلاتِ لا من الاساسياتِ والمُهمّات 

٣- اعطاء الطّالب فرصةً في البحث والتدقيقِ ، والوصولِ الى ما يَطلبُه ويرغبُ في تَحصيلهِ في المستقبل مع التحقيقِ ، ولكنّي أجدُ أنّ إعطاء الدّارس صورةً عن الكتاب ومؤلِّفه لا يقلّ أهميةً عن الشُّروع في الروايةِ أو الدِّرايةِ -والله أعلم-

الخاطرة الحادية عشرة : خاطرةٌ في آدابِ مَجالس السّماع والرِّوايةِ الافتراضيّةِ

الجانبُ المُشرِق لمَواقع التّواصل الاجْتماعي هذه الأيام فيها ما دَأَبَ عليه جمعٌ من طلبة علمَي الرِّوايةِ والدِّرايِة من الاتصالِ على مدّحثي العَصْر والمُعمَّرين ، واستجازتِهم في مَسموعاتِهم ومؤلفاتِهم ، والعملِ على تَنظيم الأوقاتِ ، وتسجيلِ أسماءِ المُستَمِعين والمُستمِعات ، ونشرِ الاجازاتِ بأسانيدِ المرويّات والمُسَلْسلات 

ويحضرُ هذه المجالسَ أناسٌ من المشارقِ والمغاربِ

وقد خَطَر لي : وأنا أتابعُ وأشاهدُ انشغالَ بعض المستمعين والمتابعين بالتّعليقات ، وتبادلَ التّحيات ، وربّما كانوا على هَيئةٍ لا تَتناسبُ مع مجلسِ سَماع الرّوايات ، وطلَبهم إعادة بعض الأحاديثِ لفَوتها بسبب تأخّرهم فوقعَ في خَلدي أنْ أسجّل بعضَ الادآبِ المرعيّة عند علمائنا في المجالسِ العلميةِ ومنها : 

أولاً: استحضارُ النية وتصحيحُ المَقصد ، وتجميلُ المَظهر بالاغتسال او الوضوء ووضع الطيب ، عن معن بن عيسى القزاز - رحمه الله - قال: (( كان مالك بن أنس إذا أراد أن يجلس للحديث اغتسل، وتبخَّر، وتطيّب، فإن رفع أحدٌ صوته في مجلسه زَبَره... )) 

ثانياً : التبكيرُ في الحضور ، والاستعدادُ له قبل بدئه وتهيئةُ ما يلزم لمتابعته من أوّله ، يقول جعفرُ بن دُرستويه -رحمه الله- : (( كنّا نأخذ المجلس في مجلسِ عليّ بن المديني وقتَ العصر اليومَ لمجلسِ غدٍ , فنقعد طولَ الليل , مخافةَ أن لا نَلحقَ من الغدِ موضعاً نسمعُ فيه ...) .

ثالثاً : الاستماعُ والانصاتُ ، يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: (( لا خيرَ في الحياة إلاّ لأحدِ رجلين: مُنصتٍ واعٍ أو متكلِّمٍ عالمٍ )) ، ويقول بعضُهم : (( إذا جالستَ العالمَ فأنصتْ، وإذا جالستَ الجاهل فأنصِتْ، ففي إنصاتِك للعالم زيادةُ علمٍ، وفي إنصاتك للجاهل زيادةُ حِلمٍ )) ، ونصّ الامام الغزالي -رحمه الله- على صفاتِ المُنصِت منها : ( حاضِرُ القلب قليلُ الالتفات إلى الجوانِب مُتَحِرِّزًا عن النظرِ إلى وجوهِ المستمِعين وما يظهَر عليهم من أحوالٍ وأوضاعٍ، مشتَغِلاً بنفسِه متحفِّظًا عن حركةٍ تشوِّش على أصحابِه، سَاكِنُ الظاهِرِ هادِئُ الأطراف متحفِّظٌ من التَنحنُح والتَثاؤبِ)) 

رابعاً : التَحلِّي بأدب الجلوس فلا يَجلس مُتكئاً ولا مضطجعاً على جنبه ، ولا مستلقياً على ظهره ، ولا يمدّ رجلَيه الا لضرورة وقد صحّ من حديث جبريل عليه السلام عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( فأسندَ رُكبته إلى رُكبَتَيه ، ووضعَ كفّيه على فَخذَيه )) وجاء رجلٌ إلى سعيدِ بن المسيّب وهو مريضٌ، فسأله عن حديثٍ وهو مضطجعٌ، فجلس فحدّثه، فقال له الرجل: وَدِدتُ أنّك لم تتعَنَّ ، فقال: إنّي كرِهت أنْ أحدّثَك عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مضطجعٌ .

خامساً : احضارُ القلم والورقة لكتابة الفوائد والفرائد ، وتقييدُ النوادر ، وضبطُ الالفاظ من الاكابر قال الضحّاك - رحمه الله- : (( إذا سمعتَ شيئاً فاكْتبه ولو في الحائط)) ، وقال النّووي - رحمه الله- : (( ولا يحتقرَنّ فائدةً يراها أو يسمعُها في أيّ فنٍّ كانت بل يُبادرُ إلى كتابتِها ، ويواظبُ على مطالعةِ ما كتبَه )) . وقد حفظتُ أبياتَ شعرٍ منذ خمسٍ وعشرين سنة من شيخنا عز الدين محيي الرفاعي _ حفظه الله_ قال فيها سُحنون : 

العلمُ صيدٌ والكتابةٌ قيدُه =قيِّد صُيودَك بالجبال الواثقة

فمن الحماقة أنْ تصيدَ غَزَالةَ=و تفكّها بين الخلائقِ طالقة 

وقد قال شيخُنا عبد الحكيم محمد الأنيس -حفظه الله- في مقالةٍ عَنونَ لها ( جهود في تصحيح نسبة الشعر ) منشورةٍ في موقع الألوكة الالكتروني مُعلقاً على هذين البيتين ما نصُّه : (( هكذا جاء هنا، وفي غير موضعٍ ، لكن قال الأديب أحمد بن المأمون البلغيثي العلوي الحسني (ت: 1348هـ) في كتابه "الابتهاج بنور السراج" صـ 53 بعد أن ذكر (قيدوا العلم بالكتابة) : "وعقده سحنون بقوله:

العلمُ صيدٌ والكتابة قيدُهُ =قيِّدْ صيودَك بالحبالِ الموثقهْ 

ومن الحماقة أن تصيدَ حمامةً =وتتركها بين الأوانسِ مطلقهْ 

هكذا ذكر البيتين الحطّابُ في حواشيه على الرسالة، ونسبهما لسحنون، وكذا رويتُهما عن جماعة من الأشياخ والأدباء، وكذلك وجدتُهما بخطوط قديمة جدًا، ولا يخفى أن الشطر الأخير غير متزن، وكل من رويتهما عنه يذكر أنه سمعه كذلك. وقد جرت محاورة فيه بين أدباء الوقت مع اتفاقهم على أنه مروي، فلهذا لم أصلحه".

سادساً : التركيزُ أثناء مجلس السّماع ، وعدمُ الانشغال بما هو خارجٌ عن المجلس كاستعمال الهاتف ، والبرمجيات ، وتطبيقات مواقع التواصل أثناء الدّرس فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (مَنْ مسَّ الحصى فَقَدْ لَغَا) وهذا في خطبةِ الجُمعة ، ويمكن قياسُ مجلسِ السّماع عليها لتضمّنه قراءةَ الآيات والأحاديث والآثار ، يقول عبدُ الله بن المبارك - رحمه الله - : (( كنتُ عند مالكٍ وهو يحدّثنا فَلَدغته عَقرب ستَ عشرةَ مرةً وهو يتغيّرُ ، ويَصفّرُ ، ولا يَقطع حديثَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما فرغ من المجلس وتفرّق عنه النّاسُ، قلتُ له : يا أبا عبد الله رأيتُ منك اليوم عجباً، قال: إنّما صبرت إجلالاً لحديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم )) .

وفِي هذا الباب مؤلفاتٌ عظيمةٌ تدلّ على آدابٍ جسيمةٍ ، وخلالٍ كريمةٍ تُزّين طلبةَ العلم وتفتحُ لهم القبولَ وترفعُ مكانتَهم الى القِمم . 

اللهمَّ كما حسَّنتَ خَلقي فحسِّنْ خُلُقي ، اللَّهُمَّ أَغْنِنِي بِالْعِلْمِ ، وَزَيِّنِّي بِالْحِلْمِ ، وَأَكْرِمْنِي بِالتَّقْوَى ، وَجَمِّلْنِي بِالْعَافِيَةِ .

الحلقة السابقة هـــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين