ملامح سور القرآن الكريم: سورة المائدة

تحيرت في المعنى الذي تدور سورة المائدة، ذلك أنها بدأت بذكر الوفاء بالعقود، واسمها المائدة، وفيها ذكر الحلال والحرام من الطعام والشراب، وفيها ذكر بعض الحدود، فقلت: أترك ذلك للصلاة، فلما انقدح المعنى في ذهني في الصلاة اقشعرّ بدني، والله!

سألني ابني مرة: لماذا نقول عند الأكل: بارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النار؟ ما علاقة نار الآخرة بالأكل؟ قلت له: نعم، إن هذا البدن يَنبت وينمِي بالأكل، والمؤمن يسأل الله ألا يكون بدنه الذي يربّيه بالأكل وقودًا للنار يوم القيامة، والعياذ بالله!

إن المتعاقَد عليه -أيها الإخوة- هو هذا البدن الذي نغذِّيه بالمطعومات، ألم يقل الله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)؟ والمال خادم للبدن، لأن الغرض الأول منه المأكل والمشرب والمركب والمسكن والمنكح.

سورة المائدة تتحدث عن النفوس التي هي الأجساد، ومن أولها تقرأ: (أوفوا بالعقود، أحلت لكم بهيمة الأنعام)، فالطعام هو باني الجسد، والجسد محل العقد، أن تَحكمه وتحكم فيه بما أنزل الله!

والحدود المذكورة في السورة حدود بدنية، منها القطع والقتل والصلب، وهي قد شُرعت لحفظ الأبدان، والأبدان حافظة للأرواح، بردع الذين يعتدون عليها حتى لا يجترئوا على هدم ما خلق الله، لأنهم إذا علموا أن عدوانهم على النفس والمال سيرجع بالقصاص من أنفسهم ارتدعوا،كما قال الله: (ولكم في القصاص حياة).

حتى ذكر تحريض موسى لقومه على القتال إنما هو القتال لحفظ الحياة، حيث المظنون أنه يؤدي إلى إهلاكها، لأن التدافع حياة، ولولا هو لفسدت الأرض، وإن وقع القتل بالحق في الدفاع عن الحياة فالقتل حياة، لأنه حَفِظ حياة الأحياء من العدوان، ونقل الشهداء إلى حياة عند ربهم يرزقون.

وانظر إلى رعاية البدن في صنيع الغراب الذي علَّم ابن آدم كيف يواري الميت ويحفظ كرامته ويستر عورته ويكرم ميتته.

حتى ذكر عيسى عليه السلام في وسط السورة وفي أواخرها لأن النصارى اعتقدوا أن بدنه صُلب، وأنه فدى خطايا الناس بعذاب جسده، ولذلك عبدوه، وقال منهم من قال: إن الله هو المسيح بن مريم، وغفلوا عن أنه بشر كان يأكل الطعام، إي والله! كان هو وأمه يأكلان الطعام. سبحان الله! عجبًا، أليس اسم السورة: المائدة، وجاء في آخرها ذكر المائدة التي سألها الحواريون عيسى عليه السلام، فكانت آية ومعجزة يستحق أهل الكفران بعدها عذابًا لا يُعذَّبه أحد من العالمين.

وحيثما تأملت السورة وجدتها في المطعومات البانية للأبدان، المحكومة بحكم الله، ومنها الحدود، لا يجوز التصرف فيها، إلا بما شرع الله، فإذا أراد معتدٍ العدوان عليها فدتها نفوس المؤمنين، فكان هذا إحياء لها، وإحياء لكل النفوس، لأنه إقامة للسياج الحافظ لدائرة الحياة الإنسانية كلها التي خلقها الله أن يستبيحها الجترئون، كما أن قتل نفس واحدة ظلمًا هو عدوان على النفوس جميعًا، لأنه دخول إلى هذا الحرم، يكون بعده الاستسهال والاجتراء، كما هو مشاهد في الحروب التي يشعلها الطغاة ومن والاهم ورضي بحكمهم فكان منهم وإن لم يباشر القتل بيده.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين