فتاوى تفسيرية (3)

السؤال الثاني عشر:

    كيف نوفّق بين قوله تعالى: (كل مَن عليها فان ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام)  [سورة الرحمن:26-27 ] وبين ما ندرسه في الفيزياء من النظرية القائلة أن المادة لا تفنى ولا تُستحدث؟

الجـواب:

    الحقائقُ ثابتة لا تتغير، أما النظريات فما هي إلا تفسير لبعض الظواهر. وقد يكون هذا التفسير صحيحاً وقد لا يكون، وقد يكون مقبولاً في وقت، ثم يتبين خلله أو عدم شموله في وقت آخر. فالنظريات لا تعارض الحقائق.

    والنظرية التي ذكرها السائلُ كانت رائجة في وقت ما ثم تبين خللها. ذلك أنهم اعتقدوا أنَّ المادة لا يمكن إيجادها من العدم ولا يمكن إعدامها. وعبروا عن ذلك بقانون حفظ المادة. ثم اعتقدوا ولايزالون يعتقدون أن الطاقة كذلك لا يمكن إيجادها من العدم، ولا يمكن فناؤها ولا إفناؤها، وعبروا عن ذلك بقانون حفظ الطاقة.

    ثم وجدوا أنَّ بعض المواد يتحول -فعلاً- إلى طاقة، وأنَّ بعض الطاقات يتحول -فعلاً أو نظرياً- إلى مادة. وعلى هذا الأساس صاغوا القانون الذي ينص على أن المجموع الكلي للمادة والطاقة في الكون ثابت. فظهور طاقة جديدة إنما يعني اختفاءَ مادة، وظهـور مادة جديدة إنما يعني اختفاءَ طاقة.

    ومن المعلوم أن الجسم الصُلب يتحول إلى سائل أو غاز وبالعكس، ولكنه في كل ذلك لايزال مادة، لأن الحالات المذكورة من خواص المادة. أما إذا تلاشت المادة، أي خرجت عن كونها مادة فليس معنى ذلك أنها انعدمت وتلاشت إلى لا شيء، بل إنها تحولت -كما يقولون- إلى طاقة حركية أو حرارية أو كهربائية أو صوتية أو غير ذلك مما عرفه البشر ومما لم يعرفوه بعد.

    ونحن لا نقول ذلك على سبيل الجزم، ولا نريد أن نتطفل على المختصين بالموضوع، ولا ندّعي الاطلاع على تفاصيله، لأنه ليس من اختصاصنا. أما ما ذكرناه فلا يخرج عن كونه من المعلومات العامة التي قد يعرفها صغارُ طلبة الفيزياء، لكنا اضطررنا إلى عرض المفهوم العام للنظرية الواردة في السؤال لنتمكن من القول بأن اعتقاد ذلك جائز شرعاً أو غير جائز، لأنَّ هذا هو المقصود بالسؤال.

    أما من الناحية الدينية فإن علماء الكلام بحثوا فيما يتعلق بهذه المسألة في موضوع إثبات حدوث العالم، وفي موضوع إمكان فنائه، وفي موضوع المعاد والبعث بعد الموت.

    من المقطوع به أن المخلوقات لا بدَّ لها من خالق. وبعض الفلاسفة الأقدمين، مع اعترافهم بذلك، قالوا: إن العالم قديم. أي إن مادته قديمة. وقالوا بالحدوث الذاتي، أي إن العالم مسبوق بوجود الخالق سبقاً ذاتياً، لوجوب تقدم العلة على المعلول والمحتاج إليه على المحتاج، كما لو كان بيدك خاتم فإذا حرَّكت يدك تحرك الخاتم. فحركة الخاتم غير متأخرة بالزمان عن حركة اليد. وحركة اليد سابقة لحركة الخاتم سبقاً ذاتياً لا زمانياً. فلذلك قالوا: العالم قديم مع أنه مخلوق لله تعالى.

    وهذا القول يلائم القول بأن المادة لا تُستحدث، وعلماء الكلام قالوا بالحدوث الزماني، أي إن العالم كان مسبوقاً بالعدم ثم وُجِد. والجدلُ حول ذلك طويلٌ عريضٌ ودقيقٌ عويصٌ. وعلى كل فإن القول بأن المادة لا تستحدث مخالف مخالفةً صريحةً للقول بأن الله تعالى أوجد العالم من العدم.

    أما القول بأن المادة لا تفنى فهذا أمر آخر. نقول ذلك مع عدم غفلتنا عن أمور مسلّمة عند علماء الكلام، مثل: (ما ثبت قدمُه امتنع عدمُه) ومثل: (ما يجوز عدمُه يمتنع قدمُه).

    وحول المعاد الجسماني بحث علماءُ الكلام وبعضُ المفسِّرين في أنه هل يكون المعاد بإعادة الاجسام بعد انعدامها، أو يكون بجمع الأجزاء المتفرقة. فعلماء المسلمين بعضهم قال بالأول، وبعضهم قال بالثاني، ولم يعدّوا مَن قال بأحدهما مخالفاً لما ورد في الدين. فالقـول بهذا أو ذاك لا يُعَدّ خروجاً على الدين. وهذا مما يتعلق بالسؤال أيضاً. ويتضح ذلك ممـا يأتي:

    قال العلامة التفتازاني في "شرح النسفية" حول البعث: هو أن يبعث الله الموتى من القبور بأن يجمع أجزاءهم الأصلية ويُعيد الأرواح إليها. وأنكره بعض الفلاسفة بناءً على امتناع إعادة المعدوم بعينه، لكن دليلهم على هذا لا يُعتدّ به. ومع ذلك فإن مرادنـا أن الله تعالى يجمع الأجزاء الأصلية للإنسان ويعيد روحه إليه، سواء سُمي ذلك إعادة المعـدوم بعينه أم لا. وقال حول قوله تعالى: كل شىء هالك إلاّ وجهه الهلاك لا يستلزم الفنـاء، بل يكفي الخروج عن حد الانتفاع اهـ 181، 187 مع بعض التصرُّف.

    وتجد نحو ذلك في "شرح العضدية" لجلال الدين الدواني بحاشية إسماعيل الكلنبوي 1/167.

    وفي كتاب "المواقف" للعلامة عبد الرحمن الإيجي و"شرحه" للسيد الشريف حول المعاد وإعادة المعدوم: فإن المعاد الجسماني يتوقف عليها (أي على إثبات إعادة المعدوم) عند من يقول بإعدام الأجسام، دون من يقول بأن فناءها عبارة عن تفرق أجزائها واختلاط بعضها ببعض كما تدل عليه قصة إبراهيم عليه السلام في إحياء الطير.

    ثم قال: هل يُعدِم الله الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ثم يعيد تأليفها؟ الحق أنه لم يثبت ذلك، ولا جزم فيه نفياً ولا إثباتاً، لعدم الدليل. وما يُحتَج به على الإعدام من قولـه تعالى: {كل شىء هالك إلاّ وجهه} ضعيف في الدلالة عليه (أي إن القول بأن الآيـة المذكورة تدل على الإعدام قول ضعيف)، لأن التفرق وزوال التأليف خروج للشيء عن صفاته المطلوبة منه، فيكون هلاكاً. ومثله يسمى فناءً عرفاً. ولنفس السبب لا يتم الاستدلال على الإعدام بقوله تعالى: {كل من عليها فانٍ} اهـ 2/440، 445 مع شيء من التوضيح.

    وقال الشيخ الدواني في "شرح العضدية" 1/165: إن العالم قابل للفناء، أي العدم الطارئ على الوجود اهـ فعلق على ذلك المحقق المرجاني بقوله: الفناء بهذا المعنى مسألة غير مأخوذة من الشرع. ومثلُ قوله تعالى: {كل من عليها فانٍ} قولُه سبحانه: {كل شىء هالك إلاّ وجهه} لا يدل عليه. ثم قال: والإجماع على عدم فناء الجنة والنار وكونهما مخلوقتين الآن، وعدم فناء الأرواح الانسانية يُنافيه، أي ينافي القول بالإعدام. وقد صح عن أبي حنيفة رحمه الله أن اللوح والقلم والعرش والكرسي والجنة والنار لا تفنى. انتهى كلام المرجاني.

    وفي "تفسير" ابن كثير 3/402 قال في قوله تعالى: {كل شىء هالك إلاّ وجهه}: إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم، تموت الخلائق ولا يموت. كما قال تعالى: {كل مَن عليها فان ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال والاكرام} اهـ فابن كثير يفسّر الهلاك هنا بالموت لا بالإعدام.

    وفي 3/581 منه قال في قوله تعالى: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم ؟ قل يحييها الذي أنشأها أولَ مرة وهو بكل خلق عليم}  أي إنه يعلم العظام في سائر أقطار الارض وأرجائها أين ذهبت وأين تمزقت. ثم أورد الحديث الصحيح الذي فيه أن رجلاً أوصى أهله إذا هو مات أن يحرقوا جثته ويذروّا رمادها في اليم. ففعلوا فجمعه الله تعالى (رواه مسلم).

    وتدل آيات كثيرة على جمع الأجزاء، منها عدا ما تقدم:

{منها خلقناكم وفيها نُعيدكم ومنها نُخرجكم تارةً أخرى} (طـه: 55).

{أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور} (العاديات: 9).

{وإذا القبور بُعثرت} (الانفطار: 4).

{أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} (القيامة: 3).

{والله أنبتكم من الأرض نباتاً  ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً} (نوح: 17-18).

{ويوم يخرجون من الأجداث سراعاً}  (المعارج: 43).

{ونُفِخَ في الصورِ فإذا هم من الأجداثِ الى ربهم يَنسِلون} (يـس: 51).

{يومَ تَشَقَّقُ الأرضُ عنهم سراعاً  ذلك حشرٌ علينا يسير} (ق: 44).

    هذا ما ظهر لنا من الإجابة عن السؤال المذكور الذي بعثه إلينا السيد خالد إبراهيم سعيد (من بغداد). وكان كثيرٌ من الطلبة قد سألوا نفس السؤال، لذلك تبسطنا في الجـواب نوعاً ما وحسب اطلاعنا المحدود. والله أعلم بالصواب.

***

 السؤال الثالث عشر:

ما معنى قوله تعالى: {فإذا نُقِرَ في الناقور} [المدثر:8]؟

الجـواب:

ذكر المفسِّرون أنَّ الناقور هوالصُّور أي البوق الذي يُنفخ فيه يوم القيامة. وعلى هذا يكون قوله تعالى: (فإذا نقر في الناقور) مثل قوله: (فإذا نفخ في الصور).

    وذكر العلماءُ أنَّ إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور ثلاث نفخات:

الأولى: نفخة الفزع، قال تعالى في سورة النمل: {ويوم يُنفخ في الصور ففزع مَن في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله}.

والثانية: نفخة الصعق التي يموت فيها الخلائق.

والثالثة: نفخة الإحياء بعد الموت، وفي هاتين النفختين قال تعالى: {ونفخ في الصور فصَعِق مَنْ في السموات ومن في الارض إلا مَنْ شاء الله. ثم نفخ فيه أخرى فاذا هم قيام ينظرون}.

 أمّا حقيقة الصور وكيفية تأثير ذلك على كل ذي روح فذلك ممّا نؤمنُ به ولا نعلم كيف يتم. وعلى كلٍّ فذلك تصوير لأهوال القيامة ممّا إذا تدبَّره الإنسانُ ازداد لله خشيةً وله طاعةً وبه استعاذةً، كما كان سلفنا الصالح.

ذكروا أنَّ قاضي البصرة (زرارة بن أوفى) رحمه الله كان يؤمُّ جماعةً في صلاة الفجر فقرأ فيما قرأ: {فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير} فشهق شهقةً وسقط ميتاً.

قال راوي الواقعة: كنتُ ممَّنْ حمل جثتَه من المسجد إلى بيته. وردتْ هذه الواقعة في سنن الترمذي 2/232 وذكرها ابنُ كثير في "تفسيره" 4/442 والله سبحانه أعلم.

*** 

السؤال الرابع عشر:

في سورة (عَبَس) من القرآن الكريم: {فإذا جاءت الصاخة}[33] فما هي الصاخّة، وما هي القارعة، والغاشية؟

الجـواب:

مِنْ معاني الصاخّة في اللغة: الداهية. ويُقال: أصاخ له بمعنى استمع له. ومعنى الصاخة في الآية إمّا يوم القيامة بصورة عامة، وإمّا نفخة الصور الشديدة التي تحصلُ في ذلك اليوم.

ووردَ في القرآن الكريم أسماء ليوم القيامة مِنْها: الحاقّة، والطامّة الكبرى، والصاخّة، والغاشية، والقارعة. والمعنى الوصفي في كل مِنْها مرادٌ.

سُمِّيتْ بالحاقة لأنَّها لابدَّ أنْ تقع وتتحقق كما يتحققُ فيها غاية الوعد والوعيد، وعدُ الله المؤمنين بالفوز والنجاة والنعيم المقيم، ووعيدُه للكافرين بالخيبة والخسران والهلاك والعذاب المستديم.

    وسُمِّيتْ بالطامّة الكبرى لأنَّها داهية تطمُّ غيرها، ولقوتها تغلبُ ما سواها، وفيها من الأهوال ظهور جهنم ظهوراً بارزاً للعيان: {يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرّزت الجحيم لمن يرى}.

   وسُمِّيتْ بالصاخة لأنَّها صيحة شديدة تكاد تصمّ الآذان وتعقبها أهوال: {يوم يفر المرء مِنْ أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه}.

    وسُمِّيتْ بالغاشية لأنَّها تغشى الناسَ جميعاً بما فيها مِنْ مواقف مذهلة ومَشاهد مرعبة ومواقف مفرحة مريحة: {وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية، تُسقى مِنْ عين آنية. ليس لهم طعام إلا مِنْ ضريع لا يُسمِن ولا يغني من جوع. ووجوه يومئذ ناعمـة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية}.

    وسُمِّيتْ بالقارعة لأنَّها تأتي بغتةً كمن يطرقُ الباب طرقاً عنيفاً على حين غفلةٍ مِنْ أهل الدار. وتحدثُ عند القارعة أهوال فظيعة: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش}.

***

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين