تمَّام، رجلٌ من داريَّا

لم أخل يومًا أن ألقاه، فضلًا عن أن يكون لقاؤنا في إسطنبول! إن لإسطنبول عليَّ أفضالًا جمَّة، وأنا أشكر لها أفضالها تلك على الدوام، وأحمد الله أن منَّ عليَّ بإسطنبول؛ لقد جمعتني هذه المدينة الساحرة، عاصمة العالم -كما يقول نابليون بونابارت- بأصدقاء طيبين من خيرة الناس، أسمّيهم "حسنات إسطنبول"، وأنا اليوم في حديث عن حسنة من هذه الحسنات، ولكني يا إسطنبول لست في حديث عنك، أنا في حديث عن داريَّا.

صوت داريَّا

حُوصِرت داريَّا أقرب قلاع الثورة من دمشق، وناضل شبابها يصدون حملات الاقتحام واحدة تلو الأخرى، أبلى ثوارها بلاء منقطع النظير، بالتزامن مع تخاذل الفصائل المحيطة بالمدينة وفشلها في فك الحصار. تابعتُ أخبار داريّا لحظة بلحظة، خصوصًا أيامها الأخيرة، كان تمّام أبو الخير صوت المدينة إلى العالم، وقد كان ينكأ الجراح خبرًا سيئًا تلو خبر، الحملات على أشدها، وحماة المدينة بعتادهم القليل ينافحون عن أسوارها، مخذولين من القريب قبل البعيد، لقد كانت القلعة آيلة إلى السقوط لا محالة.

أضغاث أحلام

آمن الناس بداريّا صامدة أبدًا لا تقهر، كما آمنوا بالثورة. لقد آمنوا إيمان من يخدع نفسه ويمنّيها، خذلوا أنفسهم وتحالفوا مع شياطين الأحلام، سوّلت لهم شياطينهم أن لا تخافوا، لن تغلبوا اليوم من أطفال حالمين، مؤمنين بالقيم النبيلة آتية إليهم دونما سعي، صوَّرت لهم شياطينهم ثورة على غيرهم دون أنفسهم، ثورة لا تعدو كونها كلامًا وشعارات فارغة وتخوينًا ومزاودات، كل ما في الوجود يصرخ فيهم أن أين هذه الثورة التي تزعمون؟!

ثوروا على أنفسكم أيها الناس، ثوروا على أنفسكم أيها المساكين. ولكن ليت شعري، أنّى يجدي في الناس نصح؟!

السقوط 

داريَّا تكاد تسقط، إنها تسقط، لقد سقطت داريَّا! كان سقوطًا مدويًّا، سقوطًا لكل شيء، سقوطًا من عَلٍ أيقظ الناس من وهم الشعارات البرّاقة والوعود المتتابعة، إلى حقائق مريعة كالمناطقية والفصائلية، لم يُخَيَّل لنا أن تسقط داريَّا ومعها الثورة ذات يوم. أيها الناس، يامن رأيتم داريَّا تسقط وتركتموها وحدها، لقد استحققتم السقوط والانكسار، ولكن، ما ذنب داريَّا؟ يتساءل تمَّام، ما ذنب رفاقي الذين واريتهم الثرى هناك، ما ذنب الشهداء؟

لا يسقط الشهداء بسقوط القلاع يا تمَّام، الشهداء يصعدون إلى السماء مرتين، مرة في صعودهم، ومرة في سقوطنا. هم في صعود أبدًا، ونحن في سقوط أبدًا ما لم نلحق بهم، وقد يدرك المؤمن منازل الشهداء إن صدق مع نفسه.

مع تمَّام 

في المرة الأولى، قابلت تمّامًا مصادفة وعلى عجالة، لم يسعفنا الوقت إذ ذاك فنتحدث بما يكفي، عدت إلى البيت، وتواصلنا على أن نلتقي مرة أخرى، وكان لقاؤنا. جلس تمَّام مقابلي، وكأن داريَّا التي جلست، رأيتُ فيه داريَّا تجلس إلى خاذلها، وهل يجلس المخذول إلى خاذله؟ نعم، إن كان غاية في الكرم، هي في جلوسها عزة ورفعة كما شأنها دائمًا، وهو في جلوسه انكسار وإطراق كما شأنه دائمًا، أسهب تمام في الحديث، وأسهبت أنا في التحسر، يكابر تمَّام وأكابر فنمنع دموعنا، لا تطلب داريَّا -كما الثورة- منا شفقة إذ تُحدثنا عن نفسها، عن بطولاتها، عن أبنائها الذين سقوا ترابها بدمائهم الطاهرات، عن جوعها وحصارها، عن عزها وجلالها؛ إن داريَّا إذ تُحدثنا عن ذلك كله إنما هي تُعرفنا بها وبنا، تعرفنا بكرمها ولؤمنا، عزها وذلنا، قوتها وضعفنا، وفائها وخيانتنا، بسالتها وجبننا. داريَّا ترينا الحقيقة فقط، أن هذه أنا فمن أنتم؟ لم تسقط داريَّا ولن تسقط الثورة، نحن سقطنا وما زلنا نسقط. 

يقول تمَّام: "من المؤسف جدًا أن تكون أنت ابن الثورة البار، المهجر من أرضه؛ ثم تجدك متخلفًا عن ركب الحياة، قد سبقك العالم الذي قاتلت من أجله مراحل وأعوامًا. من المؤسف مثلًا أن شابًّا لازم الثغور يذود عن الثورة ست سنوات، وآخر نذر نفسه لتعليم أطفال المدينة على قلة الإمكانات وضعفها، وأخرى انقطعت عن دراستها ومستقبلها تعمل في مشفى ميداني ساهرة على جرحى المدينة ومرضاها، ثم تراهم الآن مخذولين، يبحث بعضهم عن بيت يؤويه، وآخر عن لقمة عيش تعيل عياله، وآخر عن جامعة تقبله، أهذا ما استحقه هؤلاء الشرفاء؟ ألهذا خاضوا معارك الأمة وحدهم؟!"

صمتُّ والعبرة تخنقني، ثم قلت: "تمَّام، دعني أخبرك شيئًا. لقد جالستُ شرفاء مثلك خرجوا من الحصار. وما أشعر الآن إلا كما شعرت إذ كنت معهم؛ نحن من تخلف عن الركب يا أخي، لقد تخلف العالم عنكم أعمارًا وسنوات، أنتم أولو الفضل يا تمَّام، وماذا تعني حياة ليس فيها أنتم؟ ما هي الجامعة وما هي المهنة المرموقة؟ لقد حزتم يا تمَّام شرفًا لم يحزه غيركم، واكتسبتم تجارب لا تنال إلا في مدرسة الحياة العُليا: مدرسة الثورة والحصار، هل يجوز لعاقل أن يقارن بين رجل صنعه الحصار ومعاني البطولة والتضحية والثورة، ورجل عاش خارج الحصار، لا يعلم عن الثورة إلا اسمها؟ لا يجوز ذلك بحال البتة، لا تحزن على نفسك يا تمَّام، بل احزن علينا؛ فنحن الخاسر في هذه المعركة يا صديقي. لقد خسرنا كل شيء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين