البوطي؛ نقطة التّحوّل في العلاقة مع حافظ الأسد

وهو المقال السّادس من سلسلة "البوطي؛ شخصيّتُه وأفكارُه ومواقفه"

كان حافظُ الأسد حريصًا على إحياء جميع المناسبات الدّينيّة وحضورها بنفسه، لا سيما في فترة الثَّمانينات، مهما كانت هذه المناسبات عاديّةً ودوريّة، وذلك ليرسّخ فكرةً مهمّة كان يركّز عليها في سياق معركته مع الإخوان المسلمين، ويستحضرُها في عموم خطاباتِه، وهي أنّه يحارب الإخوان المسلمين بوصفهم جماعة إجراميّة لا بوصفهم جماعة إسلاميّة، وأنّه هو والعلماء الذين يحيطون به ويشاركونه مناسباته هم الذين يمثّلون الإسلام الحقيقيّ وليس الإخوان المسلمين الذين يشوّهون الإسلام باسم الإسلام، وكان يطلق عليهم في معظم كلماته اسم "الإخوان المجرمون" والذين كانوا بدورهم يرون في حرب حافظ الأسد عليهم حربًا على الدّين والتديّن ومحاولةً للقضاء على المشروع الإسلاميّ برمّته.

ولم يكن حافظ الأسد ليفوّت مناسبةً تاريخيّة مثل دخول القرن الهجريّ الخامس عشر دون استثمارٍ احتفاليّ للتّأكيد على هذه المعاني، لا سيما وأنّ هذه المناسبة وافقت نهايات شهر نوفمبر "تشرين الأوّل" عام 1979م أي بعد حادثة مدرسة المدفعيّة في حلب بأشهر يسيرة، وكانت الأحداث المتصاعدة بين النّظام وجماعة الإخوان المسلمين ومن معهم على أشدّها.

• تفاصيل ما قبل الكلمة

كان وزير الأوقاف آنذاك هو الدّكتور محمّد الخطيب الذي كان له دورٌ كبيرٌ في تحوّلات الدّكتور البوطي ومواقفه، وكانت وزارة الأوقاف هي الجهة التي تنظّم هذا الاحتفال، ولكن من يعرف هيكلية النّظام السّوريّ الذي بناه حافظ الأسد يعلمُ جيّدًا أنّ هكذا قراراتٍ ونشاطاتٍ مركزيّة تقرّرها الدّوائر الأمنيّة القريبة من القصر الجمهوريّ، وما الوزارات إلّا واجهات تنفيذيّة لا تملك من أمرها سوى الانصياع والتّنفيذ.

وقع الاختيار على الدّكتور البوطي لإلقاء الكلمة الرئيسة في الاحتفال، وقام وزير الأوقاف محمد الخطيب بمهمّة إقناع الدّكتور البوطي بالموافقة، فقد كان متردّدًا وحاول التملّص من المهمّة فأحالَ القرار على والده العلّامة ملّا رمضان متوقّعًا رفضه، وهو يروي تفاصيل ما قبل الكلمة في كتابه "هذا والدي" فيقول:

‏"عزمَ وزير الأوقاف السّابق الدكتور محمّد محمّد الخطيب على تنظيمِ مهرجانٍ خطابيٍّ كبيرٍ بمناسبةِ دخول القرن الخامس عشر الهجري وقررَ إشراكي خطيبًا في هذا المهرجان وأن ألقي أمام السَّيد الرئيس حافظ الأسد كلمةَ جامعة دمشق، وكانت حوادث الفتنة آنذاك على أشدّها فاستعفيتُه عن الاشتراك في هذه المهمّة التي بدت عسيرةً عليّ لأسباب كثيرة، ولمَّا ألحَّ عليَّ أحلتُ الأمر على والدي، ‏واشترطتُ موافقتهُ الصَّريحة على ذلك، وكنتُ أتصوَّر أنَّه لن يوافق على خوضي في هذا المجال الذي أدعى إليه أوَّل مرة؛ فقبلَ الدّكتور الخطيب هذه الإحالة، وزارَ والدي وعرضَ عليه مشروعه واقتراحه، وأعلَمه أنّ الحفل سيكون بحضور السّيد الرئيس وتحت رعايته.

‏وكانت المفاجأة الكبرى لي أنَّه رحَّب بالمشروع ووافقَ على أن تكون لي كلمة جامعة دمشق في ذلك المهرجان، ولكنَّه يشترط ألّا يقيّدني بنوعٍ من الكلام، وأن أمارس حريّتي فيما أقول؛ فقبل السّيد الوزير ذلك"

وقد نصح الملّا رمضان ابنه الدّكتور البوطي بنصائح مهمّة قبيل إلقائه هذه الكلمة المفصليّة، ومن هذه النصائح ما بيّنه الدّكتور البوطي إذ يقول:

"جلستُ فيما بعدُ أسترشدُ برأيه فيمَا ينبغي أن أقول، فحدَّثني عن الأجر الرَّبانيّ الكبير على نصيحة الحاكم إن جاءت خالصةً لوجه الله صافيةً من الشَّوائب كلّها، وأوصاني أن أجعل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته" المحورَ الجامع لكلمتي كلّها.

‏وأن أنبّه إلى أنّ كلَّ فئات الأمّة تتقاسمُ المسؤوليّة والتّعاون في النّهوض بمهامّها، وإنما يكون التّعاون على هذا الطريق بالاعتماد على شبكةٍ من حسنِ الظَّنّ المتبادل، ونبّهني إلى أنّ التكفير الكيفيّ للنَّاس سلاحُ الحاقدين والمنافقين، وأنَّ النَّصيحة القائمة على التّعاون وحسنِ الظّنّ هي سلاح المجاهدين"

• اللّقاء الأوّل وجهًا لوجه

في ذلك الاحتفال الكبير كان حافظ الأسد يراقب باهتمامٍ بالغ كلمة الدّكتور البوطي الذي يلتقيه وجهًا لوجه للمرّة الأولى.

جاءت كلمات الدّكتور البوطي مفعمةً بكثيرٍ من الرّوح الشجيّة والعاطفة الملتهبة، ومشحونةً بالكثيرِ من الدّروس المستفادة من حادثة الهجرة، والمناقشة العقليّة لشبهات المستشرقين المتعلّقة بالفتح الإسلاميّ، مع رسائل واضحة تلامس الواقع الذي تعيشه سوريا آنذاك.

وفي أواخر الكلمة توجّه الدّكتور البوطي إلى حافظ الأسد بخطابٍ مباشرٍ مبيّنًا فيه أنّه سيتجنّب مدحه ويتوجّه له بالنّصح فهو أحوج إلى النّصح من المديح، وطالبه بالوقوف أمام نفسه في جلسة نقد ذاتيّ لممارساته بحقّ الدّولة التي هي شخصٌ اعتباريّ؛ مذكّرًا إيّاه بنهايته المحتومة وهي الموت الذي لا مفرّ منه؛ وكان ممّا قال:

"السّيدَ الرئيس قائدَ هذه الأمة:

كان بوسعي أن أصوغ لكم أبلغ ثناءٍ يمكن أن يتخيَّره مادح، لا يكلّفني ذلك إلا فِكرًا يرصُف وقلمًا يكتب.

ولكنّي أعلم ــ والله ــ أنّ الرجال الكبار يطمحون دومًا إلى نوعٍ آخر من الثّناء، أسمى من هذا وأجلّ، إنّهم يطمحون إلى تذكرةٍ ينبض بها قلبٌ شفوقٌ مخلصٌ أمينٌ، أكثر من أن يُطرِبهم مديحٌ يردِّده لسانٌ عليم، وما كان جيلُ خلفاء هذه الأمّة إلّا من هؤلاء الرّجال، وإني لأسأل اللهَ مخلصًا أن يجعلكم ممن نهجوا نهجَهم فبلغوا شأوَهم، وإنما ربّانا إسلامنا الذي درَسْناه علمًا ثم اصطبغنا به يقينًا على الدعاء لحُكّامنا بالهِداية والرُّشد في سائر الأحوال والظّروف، لذا اسمحوا لي أن أقول بحقّ وصدقٍ:

إذا شئنا أن نتصوّر الحقيقة القائلة إن الأمة بشعبها وقادتِها إنما هي شخصٌ معنوي واحد، فإنه على هذا الشخص أن يعكف على ساعة قُدْسيّة من النَّقد الذاتي، يتبصّر فيها نقائصَه وأخطاءَه على ضوءٍ من اليقين التامّ بأن هذه الحياة مَـمَرٌّ إلى مَــقَرّ، ودهليزٌ إلى الحياة الخالدة التي لا ريب فيها، وإن لم يستيقِن ذلك اليوم عن طواعيةٍ واختيار، أذعنَ له في الغد القريب عن قهرٍ واضطرار.

ثم إنّ على هذا الشّخص المعنوي أن يعيد النظر في توفيق المسؤوليات بين أعضائه وأجزاء كيانه، فلَكَم تطارحت هذه الأعضاءُ مسؤولياتِـها وواجباتها بعضَها على بعض"

ثمّ بعد توجّهه بالنّصح إلى حافظ الأسد وجّه الدّكتور البوطي خطابَه إلى الجماعات الإسلاميّة بما فيها جماعة الإخوان المسلمين دون أن يسمّيهم؛ فقال:

"على الذين يتحدثون كثيرًا عن المجتمع الإسلامي وأهميّته أن يعلموا أنّ ينبوعَ هذا المجتمع إنما يتمثّل في صلاح أفراده وصدقِ التّعامل في أسواقه، وباستقامة أُسَرِه ونظافة بيوته، قبل أن يتمثّل في رقابة قادته وحُكّامه، فـمَن عجِز عن ثورةِ إصلاحٍ في تلك المرافق، فهو أعجزُ عن إجراء أي تعديل في هذه الرقابة".

ثمّ توجّه إلى الطّرفين بخطاب يدعوهم فيه إلى ما أسماه "التّفاعل الإصلاحيّ الدّقيق بين الشعب والقيادة"؛ فقال:

"ولكن على قادة الأمة أيضًا أن يعلموا بأن الله يَــزَعُ بالسلطان ما لا يَــزَعُ بالقرآن، وأن تفاعلًا إصلاحيًّا دقيقًا يأتي، تسري شرايينُه بين قاعدة الشعب وقمّة قيادته، ولا ريبَ أنّ مردَّ هذا التَّفاعل إلى القاعدة النَّبوية القائلة: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيّته".

وإنّ على كافة الدّعاة إلى الله أن يعلموا بأن الدّعوة إليه تطبيبٌ أداتُه الحبّ والرّحمة، وليس تشفّيًا مبعثُه الكَيدُ والنقمة، فمَن تجاوزَ ذلك المنطلَق الذي أقامَنا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا الدّافع الذي يرتكز معظمُه على حظوظ النّفس وأهوائها، استغلقت عليه السُّبُل والْتَوَتْ عليه المقاصد، ولكنّ على قادة الأمة أيضًا أن يعلموا أن خيرَ سعْيٍ إلى إصلاح ذلك الخطأ إنما يتمثّل في العمل على إبراز الوجه الصحيح له توفيقًا وسلوكًا، فإذا الخطأ بعد حينٍ مضمحِلٌّ وزائلٌ بإذن الله.

وربما احتاج الأمر إلى لونٍ من الصّبر الجميل، وطاقةٍ من الحِلم والتَّحَلُّم، ولكن مهما يكن فذلك خيرٌ مآلًا من مقارعةِ التشفّي بمثله."

وفي ختام كلمته عاد الدّكتور البوطي ليتوجّه بالكلام إلى حافظ الأسد محذّرًا إيّاه من أهوال يوم القيامة، مطالبًا إيّاه بتحقيق العدل؛ قائلًا:

"وأخيرًا فـلِأمرٍ ما حدّثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ــ يا سيادةَ الرئيسِ ــ فيما صحّ عنه بأنّ سبعَ فئاتٍ من الناس تكون في نجوةٍ تامةٍ من حريق يوم القيامة وعذابه اللَّاهب، إذ تكون في ظلٍّ ظليل ينشره الله عليها من سابغِ فضله، أوّل هذه الفئات على الترتيب: إمامٌ عادلٌ.

فيا قائدَ هذه الأمة، ما أحوجَك وأحوجَنا معك إلى الاحتماء بذلك الظلّ الذي ستدرك مدى أهميته من خلالِ حرٍّ عجيبٍ تدنو منه رؤوس الخلائق وظمأٍ شديدٍ يأخذ بحلوق الناس، وفزعٍ يُلصِق القلوبَ بالحناجر، وإنه لَيومٌ آتٍ لا ريبَ فيه كما تأتي اليقظة بعد النوم، وكما يتكامل الصَّحْوُ بعد الحُلُم، وإنما السّبيل إلى ذلك الاحتماء هو الـمُضِيُّ في تحقيق كلمة قدّسيّةٍ جامعة: العدلُ والعدلُ فقط.

وإننا لَـنَلتزم أن نكون خيرَ عونٍ لك في تثبيت هذا الميزان وترسيخ سلطانه، فلْنتقاسم في ظلّ هذه الذكرى مسؤولية العدل، بل العدل والحبّ معًا، ولْـنجعل من صدقِ السَّعيِ إلى إقامة شرع الله وهَدْيِه ــ تحقيقًا لـمرْضاتِه ــ خير ما يقطع السّبيل إلى من قد ترونهم يستغلون الدّعوة إلى ذلك تحقيقًا لمأرب أو انتجاعًا لـمَغنَم"

ولكن كيفَ كانت أصداءُ هذه الكلمة على المستويات المختلفة؟ ولماذا كانت نقطةَ التّحوّل في العلاقة بين الدّكتور البوطي ونظام الأسد؟ 

هذا ما نجيبُ عنه بإذن الله تعالى في المقال القادم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين