آوى إليه أخاه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:

فاستكمالا للمقال السابق عن أم يوسف عليه السلام، بقي أن نناقش رواية التوراة بشأن وقت ميلاد بنيامين أخي يوسف عليه السلام، أكان ذلك قبل بيع يوسف أم بعده؟

إذا رجعنا إلى رواية التوراة فإنها تذكر أن يوسف لما طلب من الإخوة إحضار أخيهم الصغير فإن يهوذا قال له: (لا يقدر الغلام أن يترك أباه) [تك 44: 22]، وبعد حادث السرقة المدبر كي يبقي يوسف أخاه بنيامين معه، قال يهوذا ليوسف عليه السلام: (فالآن متى جئتُ إلى عبدك أبي والغلام ليس معنا، ونفسه مرتبطة بنفسه، يكون متى رأى أن الغلام مفقود أنه يموت) [تك 44: 30، 31].

فوصف بنيامين بالغلام يعطينا تصورا عن سنه حين وقوع هذه الحادثة، فالغلام هو الذي طرَّ شاربه، أي أنه شارف مرحلة البلوغ، ويكون ذلك ما بين التاسعة والخامسة عشرة.

وتحدثنا التوراة أن يعقوب عليه السلام حين دخل مصر كان عمره مائة وثلاثين سنة: (فقال فرعون ليعقوب: كم هي أيام سني حياتك؟ فقال يعقوب لفرعون: أيام سني غربتي مائة وثلاثون سنة) [تك: 47: 8، 9].

فإذا علمنا أن يعقوب - بحسب التراث الشفهي اليهودي [انظر: أساطير اليهود 1/ 322] - قد تزوج وعمره أربع وثمانون سنة [لا نوافق على ذلك لكن نحاكمهم إلى كتبهم]، وأنه قد أنجب بنيامين بعد إحدى وعشرين سنة من زواجه؛ فقد مكث عند خاله إحدى وعشرين سنة، وفي طريق العودة ولدت راحيل بنيامين، علمنا أن عمر يعقوب عند ميلاد بنيامين كان مائة سنة وخمس سنين، إذن فعندما دخل يعقوب مصر كان عمر بنيامين خمسا وعشرين سنة، وهو بكل المقاييس رجل تام الرجولة، ومن في مثل عمره في ذلك الزمن وتلك البيئة - سواء الرعوية أو الزراعية - يكون قد تزوج وأنجب أبناء.

ولو رجعنا إلى القصة التوراتية لوجدنا أن يوسف لا يكبر بنيامين إلا ببضعة أشهر، وربما بسنة على أقصى تقدير، فإن يوسف عليه السلام قد ولد في آخر المدة التي قضاها يعقوب عند خاله: (وحدث لما ولدت راحيل يوسف أن يعقوب قال للابان: اصرفني لأذهب إلى مكاني وأرضي) [تك 30: 25]، وفي طريق العودة ولدت راحيل بنيامين: (ثم رحلوا من بيت إيل، وبينما هم على مسافة من أفراتة، ولدت راحيل وعسرت ولادتها، فلما عسرت ولادتها قالت لها القابلة: لا تخافي فإن هذا أيضا ابن لك. وكان قبل أن تفيض نفسها - لأنها ماتت - قد سمته "بن أوني"، وأما أبوه فسماه "بنيامين") [تك 35: 16 - 18]، ولا يستقيم هذا مع ما في القصة التوراتية من أن يوسف سأل إخوته حين أحضروا أخاهم معهم: (أهذا أخوكم الصغير الذي قلتم لي عنه؟ ثم قال: الله ينعم عليك يا ابني؟) [تك 43: 29].

فقوله: (يا ابني) يوحي بفارق السن بين يوسف عليه السلام وبنيامين، ويوحي كذلك بصغر سن بنيامين، وهذا وحده كافٍ لرد القصة التوراتية لما فيها من الاضطراب.

فإذا رجعنا إلى القصة القرآنية وتأملنا قول يعقوب عليه السلام لبنيه حين طلبوا أخذ أخيهم معهم: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ} [يوسف: 64]، استشعرنا صغر سن بنيامين، ولمسنا ذلك الحنان الأبوي الغامر لطفله الصغير الذي يخاف عليه مصير أخيه حين كان في مثل عمره.

وكذلك قوله: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]، فإذا صدق كتبة التوراة في وقت ميلاد بنيامين، وكانت سنه كما استنتجنا من القصة التوراتية خمسا وعشرين سنة، فإن من كان في مثل هذه السن قادر على التصرف والالتحاق بأي قافلة راجعة إلى الديار إذا فقده إخوته، بخلاف طفل صغير معرض لأنواع المخاطر، كافتراس السباع أو السرقة والبيع، كما حدث مع يوسف أخيه، وبالتالي فليس في طلبه المواثيق منهم فائدة تذكر إلا أن يكون طفلا صغيرا، خاصة أننا لا نجد لبنيامين كلاما في القصة القرآنية ولا التوراتية، فأبوه يفاوض عنه.

ونرى كذلك في قول يوسف عليه السلام: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69]، فإذا كانوا رجالا كبارا، وكان بنيامين في سن الرجولة والشباب، فما الداعي أن يؤوي يوسف أخاه دونهم وفي ذلك لفت لأنظارهم؟ فهو أمر غير مبرر وغير طبيعي، لكنه يكون مقبولا إذا كان غلاما صغير السن، فيكون إكراما من العزيز لضيوفه أن يؤوي الغلام الصغير ليرعاه الخدم في القصر، فلا يجد الإخوة في ذلك أمرا مريبا يدعوهم للشك، خصوصا أن يوسف كان لديه ولدان صغيران في مثل سنه، هما بحسب التوراة: منسَّى وأفرايم.

وحين رجع أبناء يعقوب يخبرونه بأمر السرقة، {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 83، 84]، فلماذا ذكر يوسف بدلا من بنيامين؟ هذا يرجع - فيما أرى - إلى أن بنيامين كان حينها في مثل سن يوسف حين فقد، فأثار أحزان أبيه الذي رأى أن القصة تتكرر بتفاصيلها مرة أخرى، فعاد بالذاكرة إلى يوسف مثير الأحزان الأول.

أخيرا، يذكر قاموس الكتاب المقدس [ص 192] أن "بنيامين" اسم عبري معناه "ابن اليد اليمين" أو "ابن اليُمن"، وقد كانت أمه تريد أن تسميه "بن أوني" ومعناه "ابن حزني"، لكن اسم بنيامين يوحي بالبهجة والسعادة والبركة، بخلاف ما تصوره التوراة من موت أمه بعد ولادته، وما أراه أنه ربما يكون وُلِد بعد بيع يوسف عليه السلام فسماه بذلك أبوه إذ رأى فيه عوضا عن يوسف، وهذا يبين السبب الذي من أجله رفض يعقوب إرساله مع إخوته، وبحسب التوراة لم يكن يوسف يعرف أن له أخا إلا من إخوته: (فقالوا: عبيدك اثنا عشر أخا، نحن بنو رجل واحد في أرض كنعان، وهو ذا الصغير عند أبينا اليوم، والواحد مفقود) [تك 42: 13]، لكن يوسف كان يعرف من رؤياه أنهم سيكونون اثني عشر أخا، ولذلك قال في ختام القصة: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100].

بقي سؤال يحتاج إلى جواب، وهو: كيف يستقيم ما سبق مع قول إخوة يوسف: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8]، وقد ورد ذكر الأخ هنا؟

الجواب أنهما كلامان في زمنين مختلفين جُمِعَ بينهما في عبارة واحدة، فلما كان يوسف أصغر الإخوة استحوذ على حب أبيهم وعطفه، ولم يكن أخوه قد ولد بعد، ثم لما فعلوا فعلتهم وولد بنيامين أخذ مكان يوسف من أبيه فتكرر قولهم مرة أخرى، والدليل على ذلك أنهم قالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9]، ولو كان بنيامين موجودا وقد قتلوا يوسف عليه السلام أو أبعدوه عن أعين أبيهم، فلن يخلو لهم وجه أبيهم؛ لأن بنيامين في هذه الحال سيستحوذ وحده على رعاية الأب وحبه وعطفه، فلن تُحل المشكلة.

الأمر الآخر أنهم حين رجعوا بعد إلقاء يوسف عليه السلام في البئر وجاءوا على قميصه بدم كذب، قال لهم أبوهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]، وهي العبارة نفسها التي قالها حين رجعوا من مصر يخبرونه بأن ابنه [بنيامين] سرق، {ارْجِعُوا إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 81 - 83]، فتكرار هذه العبارة يوحي بتكرار مقالتهم في يوسف مع بنيامين، ويفسر السبب الذي من أجله رفض يعقوب عليه السلام أن يرسل معهم بنيامين حتى يؤتوه موثقهم، ويفسر كذلك السبب الذي دفع يعقوب عليه السلام إلى البكاء على يوسف والمفقود بنيامين.

والله أعلى وأعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين