معنى ختم النبوة

قال الله عز وجل في كتابه المجيد: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين" الأحزاب 40.

إن هذه الآية نص صريح محكم على بيان أن سيدنا ومولانا ورسولنا ونبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لم يخفَ معناها على العرب الذين أنزل الكتاب بلغتهم، ولكن مع ذلك فقد ظهر في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده دجالون كذابون ادعوا النبوة، كما رفع أناس رؤوسهم محرِّفين معنى ختم النبوة أو مشوِّهيه تشويها، ولا تزال مثل هذه الفتن تتأجج نيرانها بعد فينة وأخرى متلاعبة بالعقول ومفسدة للأفكار.

ولختم النبوة ثلاثة معان: معنى حقيقي، ومعنيان لازمان له، ونبينا صلى الله عليه وسلم ختمت به النبوة في معانيها الثلاثة.

أما المعنى الحقيقي فإن الله تعالى اختار محمدا صلى الله عليه وسلم للرسالة الأخيرة، والنبوة المنتهية به، فلن يأتي بعده أحد من الرجال أو النساء يأتيه جبريل عليه السلام برسالة، أو ينزل عليه كتاب، أو يوحى إليه لشيء يقظة أو مناما، ومن ادعى شيئا من ذلك فقد افترى عليه الكذب، ولن يطالب على دعواه بدليل، بل يعامل معاملة الدجَّالين الأفَّاكين.

والأدلة على ختم النبوة به صلى الله متضافرة بالنقل والعقل، وأجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، وقد قامت حجة الله على خلقه بتلك الأدلة، منها الآية التي افتتحنا كلامنا بذكرها، قال الإمام الطبري: "ولكنه رسول الله وخاتم النبيين، الذي ختم النبوة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة". وأجمع أهل التفسير والتأويل قاطبة على هذا المعنى، أي أنه آخر النبيين، وسياق الآية أظهر من الشمس دلالة على أن لن يأتي نبي بعده أبدا إلى أن تقوم الساعة، وقد شرحت ذلك في موضع آخر شرحا وافيا، فلا حاجة إلى إعادته.

وهنا آيات أخرى تؤكد ذلك المعنى: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا" الأعراف 158، و"وما أرسلناك إلا كافة للناس" سبأ 28، و"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"الأنبياء:107، وكمل الدين بنبوته التي لا نبوة بعدها، "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" المائدة 3، وقال: "يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك" البقرة 4، ولم يأت في القرآن قط ذكر الإيمان بما ينزل بعده، ولو نزل بعده شيء لكان ذكره أهم، وقال: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" سورة الحجر 9، ولم يحفظه إلا ليكون حجة على خلقه.

وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين"، وفي الصحيحين: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون". وفي صحيح مسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس ليس بعده نبي"، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي"، وفي الصحيحين عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي".

وأما المعنيان اللازمان لذلك المعنى الحقيقي فأولهما أن كتابه ناسخ للكتب كلها، وأن سنته قاضية على السنن كلها، والمقصود من ذلك أن الكتب السماوية السابقة وسنن الأنبياء الماضية يرجع إليها حيث تعضد القرآن وتؤيد سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يرجع إليها حيث خالفت القرآن الكريم أو السنة النبوية، أي إن رسالته مهيمنة على الرسالات، وإن نبوته حجة على النبوات، لا بالعكس، فلن يهتدي الناس بعد بعثته إلا إذا آمنوا به، قال الله تعالى: "ومن يبتغ غير الأسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" آل عمران 85. وقال سبحانه: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبآئث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" الأعراف: 157. وفي الحديث الصحيح: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"، وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين .وللحافظ أبي يعلى: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني".

والثاني أن كل ما ثبت من النبي صلى الله عليه وسلم فهو حجة على الناس إلى يوم القيامة، لا تحتاج أقواله وأفعاله إلى دليل، وأما من جاء بعده من العلماء والصالحين، فلن تكون أقوالهم وأفعالهم حجة إلا إذا استندت إلى أثر من آثاره، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا"، النساء 59. وقال تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب" الحشر: 7، وقال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" النساء: 65.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وعن أبي حنيفة رحمه الله، قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، وقال: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه"، وعن الإمام مالك رحمه الله قال: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه"، وقال: "ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صل الله عليه وسلم"، وعن الإمام الشافعي رحمه الله، قال: "ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي"، وعنه قال: "كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي"، وعن أحمد بن حنبل رحمه الله، قال: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا"، وقال: "من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين