من وصايا لقمان

قال سعيد بن المسيب رحمه الله : كان لقمان من سودان مصر، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان لقمان عبدا حبشيا نجارا ، قال له مولاه اذبح لنا هذه الشاة فذبحها ، قال أخرج أطيب مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب ، ثم مكث ما شاء الله ثم قال اذبح لنا هذه الشاة فذبحها ، قال أخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب ، فقال له مولاه أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما ، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما . فقال لقمان إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا.

وذُكِر أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال في لقمان : كان رجلا سكيتا طويل التفكر عميق النظر ، لم ينم نهارا قط ، ولم يره أحد قط يعبث ولا يضحك وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد ، وكان قد تزوج وولد له أولاد ، وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر فبذلك أوتي ما أوتي .

والمقصود في قوله تعالى " [وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ] {لقمان:12} الفقهُ في الإسلام . ولم يكن لقمانُ نبيا ولم يوح إليه – على أشهر الأقوال - ، وأوتيَ الفهم والعلم والتعبير ، ووصّاه ربه سبحانه أن يشكر الله عز وجل على ما أتاه  ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به دون سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه ، وأنبأه أن نفع الشكر وثوابه يعود على الشاكرين لقوله تعالى " ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون " وقوله " [وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] {لقمان:12} " يقرر أن الله تعالى لا يحتاج للعباد ولا يتضرر بعصيانهم إياه ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعا .

وعلى الوالد أن يرعى أولاده ، ويعلمهم ويربيهم امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما " والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته " هكذا كان لقمان . ونجد في القرآن وصايا لقمان لابنه ترسم في الزمان أخلاقاً وأدباً وعلماً ، وجاءت هذه الوصايا تنير الطريق أمام الأبناء على مدى الأيام معالم التربية القرآنية الفريدة :

1-    يظلم الإنسان بالشرك ربه حين ينفي عنه ربوبيته وألوهيته  ووحدانيته ، فيشرك معه في العبادة غيره ، ويظلم نفسه حين يغضب ربه فتكون النار مأواه وسوء المنقلب نهايته . ويظلم الآخرين حين يُضلهم ويسلك بهم سبيل الغواية والفساد . [يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] {لقمان:13}.

2- إن الله تعالى لا تخفى عليه الأعمال مهما كانت صغيرة أو خفية ، وسيحضرها يوم القيامة ويجازي عليها إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، ولا يظلم الله تعالى أحداً [يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ] {لقمان:16} إنه سبحانه لا يعزب عنه شيء في السماوات ولا في الأرض ، في نفس الإنسان وضميره أو في الماديات والمحسوسات .

إنه يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء . فإذا كان الله سبحانه لطيفاً خبيراً ، عليماً حكيماً فالحذر مطلوب ، والإصلاح في القول والعمل مرجُوّ ، فلا يجدنا الله تعالى إلا حيث يرضى .

3- ولأن الله تعالى خلقنا لعبادته فإنه يأمرنا بإقامة الصلاة ،إنها تعبير عن حبه سبحانه والرغبة في لقائه ، والوقوف بين يديه طائعين خاشعين . فمن كان الله مبتغاه سلك الطريق المؤدي إليه فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر لأنهما السبيل إلى إقامة مجتمع نظيف طاهر أسه الفضيلة والعدل والمساواة .

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء والمصلحين ، وهو نهج يرضاه ذوو الفطرة السليمة ، ويأباه أهل الأهواء فيحاربونه ويضعون في مَسربه العقبات ، فلا بد من الصبر والجد والمثابرة [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {لقمان:17}  . فمن اتصف بهذه الصفات الأربع كان من أولي العزم ، ومن كان من أولي العزم حاز قصب السبق ، ووصل غايته النبيلة .

4- إن التواضع ولين الجانب  يجذب القلوب ويُذهب السخيمة ، ويعين على الوصول إلى الهدف ، وهكذا كان لنبي صلى الله عليه وسلم ، فمدحه المولى الجليل " [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ...] {آل عمران:159}  وهو صلى الله عليه وسلم يوجّه إلى اللطف فيقول " ... ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة والمخيلة لا يحبها الله " إن التعالي والتكبر مقتلة للدعوة والداعي ، ولن يقبل الناس دعوة – ولو كانت صحيحة – من متكبر متعجرف  يرى نفسه أفضلَ الجميع ويعاملهم من فوقُ ، وكأنه الشمس في سمائها والقمر في عليائه ! والله تعالى يكره المتعالي المستكبر . فما كان اللطف في شيء إلا زانه ولا التعاظم في شيء إلا شانه . يقول لقمان في هذا [وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {لقمان:18} .

5- قال لقمان لابنه يعظه مرّة : يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك وقال له كذلك :  يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام ( يعني السلام ) ثم اجلس في ناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. والله تعالى يحب التوسط في الأمر فلا يحب مشية المتخاذل المتباطئ - دون عذر - ولا مشية الخيلاء والتفاخر . ويكره رفع الصوت فيما لا فائدة منه وقد نهى الحبيب عن علوّ الصوت وشبهه بصوت الحمار ونهيقه " إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله ، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنها رأت شيطانا " يقول الله تعالى  في ذلك على لسان لقمان الحكيم [وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ] {لقمان:19} إنّ غض الأصوات أدب رفيع ذكره الله تعالى في أول سورة الحجرات ، ومدح الملتزمين به . 

وقد روي بعض الحكم المتفرقة نوردها هنا للعظة والعبرة :

- وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه وجعل يعظ ابنه وعظة ، ويخرج خردلة حتى نفذ الخردل ، فقال : يا بني ؛ لقد وعظتك موعظة لو وُعظها جبل تفطر قال فتفطر ابنه 

- قال أنس بن مالك رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " رُبّ أشعث ذي طمرين يُصفح عن أبواب الناس ( يُدفعُ) إذا أقسم على الله لأبره " .

- وروي عن أنس رضي الله عنه " قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " طوبى للأتقياء الأثرياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يُفتقدوا أولئك مصابيح مجردون من كل فتنة غبراء مشتتة " .

- قال أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من ملوك الجنة من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يؤبه له ، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم ، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لهم ، حوائج أحدهم تتجلجل في صدره لو قسم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم " .

- وعن عبد الله بن عمرو قال : أحب عباد الله إلى الله الغرباء قيل ومن الغرباء ؟ قال الفرارون بدينهم يجمعون يوم القيامة إلى عيسى ابن مريم.

- وقال الفضيل بن عياض بلغني أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ألم أنعم عليك ألم أعطك ألم أسترك ؟ ألم . .. ألم . . . ألم أجمل ذكرك ، ثم قال الفضيل إن استطعت أن لا تعرف فافعل وما عليك أن لا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموما عند الناس محبوبا عند الله .

- وكان الخليل بن أحمد يقول اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك واجعلني في نفسي من أوضع خلقك وعند الناس من أوسط خلقك .

- وعن علي رضي الله عنه " قال : لا تبدأ لأن تشتهر , ولا ترفع شخصك لتذكر وتُعلم , واكتم واصمت تسلم ، تسرالأبرار ، وتغيظ الفجار .

- وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : ما صدق اللهَ من أحب الشهرة ، وقال محمد بن العلاء من أحب اللهَ أحب أن لا يعرفه الناس ، وقال سماك بن سلمة إياك وكثرة الأخلاء .وقال أبان بن عثمان إن أحببت أن يَسْلم إليك دينك فأقل من المعارف

- وعن هارون بن أبي عيسى عن سليم بن حنظلة قال : بينا نحن حول أبي إذ علاه عمرُ بن الخطاب بالدرة وقال : إنها مذلة للتابع وفتنة للمتبوع . وقال ابن عون عن الحسن خرج ابن مسعود فاتبعه أناس فقال والله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجل

- وفي بعض الأخبار أن موسى عليه السلام " قال لبني إسرائيل ما لكم تأتونني عليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب ؟! البسوا ثياب الملوك وألينوا قلوبكم بالخشية

نشرت 2010 وأعيد تنسيقها ونشرها 24/11/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين