من أخلاقنا : الأمانة ... !

للأستاذ على الطنطاوي  

 

مقال لأديب الفقهاء الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله ، والذي نُشر منذ 65 عاما ( نشره في غرة ربيع الأول سنة 1365هـ الموافق 5 نوفمبر 1946م بمجلة الرسالة عدد 657 ) يتحدث فيه عن خلق ضائع بين الناس اليوم ..
 
***
 

من أخلاقنا : الأمانة ... !

 

جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافق آية يعرف بها بين الناس ، ومن آياته : أنه إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان . وهذه الثلاث أركان الحياة الخلقية الاجتماعية ، وتضافرت الآثار على ذم الكذب وأهله ، ومدح الصدق وأهله ، وبيان خطر الأمانة وأنها عرضت على السموات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وهن كنّ أقوى عليها ، وحملها على ضعفه الإنسان – وإن المسلم ربما ألمّ ببعض الذنوب ولكنه لا يكذب أبدًا ، كما جاء في الحديث .
ثم إنك مع ذلك كله تجد المنتسبين إلى الإسلام اليوم ، من أرباب الصناعات وأهل السوق ، أكذب لهجة ، وأخلف وعدًا ، وأضيع لأمانة كثير ممن ليسوا مسلمين ، حتى صار المثل يضرب بالوعد الشرقي في خلفه وإضاعته والتأخر عنه ، وصار من يريد أن يؤكد وعدًا بصفة بأنه ( وعد أوروبي ) ! اللهم إن هذا لمن العجب العجاب !!
 
* * *
 
إنَّ الله بيّن خطر الأمانة ، وأنزلها هذه المنزلة ، وخوّف من حملها لأنها جماع الأخلاق ، وسلْكة عقد الفضائل ، وعمادها ، فما من شعبة من شعب الأخلاق والخير الاجتماعي إلا إليها مردّها ، وما خصلة من خصال الشر إلا والخيانة أساسها وحقيقتها .

وليست الأمانة هي أن تحفظ الوديعة حتى تؤديها إلى أصحابها ( فقط ) ، فإن هذه صورة من صورها ، وشكل من أشكالها ، وإن السلطان في يد الموظف أمانة ، فإن وضعه في غير موضعه ، أو اتخذه وسيلة إلى جلب منفعة له أو لأسرته أو لأصحابه فقد خان أمانته ، والدرجات أمانة في يد الأستاذ الممتحن يوم الامتحان ، فإن أعطى منها واحدة لغير مستحقها أو منع واحدة من يستحقها أو راعى في منحها شفاعة أو صداقة أو بغضًا أو موجدة فقد خان أمانته ، والقدرة على الحكم أمانة في يد القاضي فإن زاغ عن الحق شعرة فقد خان ، والعمل أمانة في يد الأجير المستصنع ، فإن قصر في تجويده أو أفسد فيه شيئًا ولو كان الفساد خفيًا لا يظهر فقد خان ، واعتقاد الناس بك الصلاح والتقى أمانة في يدك ، فإن اتخذت هذا الاعتقاد سببًا إلى جمع المال ، وعملت من لحيتك العريضة وعمامتك المنيفة شبكة لاصطياد الدنيا ، أو كتمت الحق ابتغاء الحظوة عند العامة أو الزلفى إلى الحاكم فهي خيانة ، إلى غير ذلك من الصور والأشكال .

بل إنك إذا دقَّقت وتلطَّفت وجدت هذه الجوارح التي أعطاكها الله أمانة في يدك ، فإذا نظرت بعينك إلى حرام أو حركت به لسانك أو خطوت إليك برجلك ، أو مددت إليه يدك ، فقد خنت الأمانة ، بل إن عمرك كله أمانة لديك ، فلا تنفق ساعة منه إلا فيما يرضى ( صاحب الأمانة ) ! .
 
فأين المسلمون اليوم من هذا ؟
لقد رأيت من قلة الأمانة ، عند الصناع والتجار والعلماء والجهلاء ومن يظنّ به المغفلون الولاية ويرونه قطب الوقت [ حكاية القطب والأوتاد لا أصل لها في نقل ولاعقل ولم يرو في ذلك إلا حديث ضعيف في الأبدال لا يثبت بمثله حكم فليفهم ذلك ! ] ما لا ينتهي حديثه ولا العجب منه ، وما خوفني الناس أن أعاملهم حتى جعلني أحمل هما كالجبل ثقلا كما عرضت لي حاجة لابد فيها من معاملة الناس ، ولا والله لا أتألم من اللص يتسور علىّ الجدار ويسرق الدار ، كما أتألم من الرجل يُظْهِر لي المودة ويُعْلِن التقى ، فإذا كانت بيني وبينه معاملة ، وتمكن منى أكلني بغير ملح وتعرق عظامي ! .


تذهب إلى الخياط الحاذق الذي ألفته وألفك واستمررت على معاملته عمرك ، والخياط من شرور المدنية لا يستغنى اليوم عنه ، وقد انقضى زمان كان الرجل فيه يخيط لنفسه أو يخيط له أهله وكان الثوب يتخذ فيه لمجرد الستر والدفء ، ولم يبق لك منجى من أن تؤم الخياط تحمل إليه ( الجوخ ) الثمين ، وتسأله أن يضرب موعدًا لا يخلفه ينجز لك فيه ثوبك الذي تريده للعيد أو للزفاف أو للسفر ، ولكل واحد من أولئك وقت لا يتقدم عنه ولا يتأخر ، فالعيد لا ينسأ لك في أيامه ، والزفاف إن أعلنته لا يؤجل ، فيعدك ويؤكد الوعد ، فإذا جئت في اليوم الموعود وجدته لم يَمَسّ بعد قماشك ، فإذا زجرته أو أنَّبته أخَذَك باللِّين وَرَاغَ منك وحلف لك مائة يمين غموس ... إنه نسي أو مرض ، أو إنه لم يعدك في هذا اليوم ولكن كان ( سوء تفاهم ) ، وإنك راجع في يوم كذا فواحد ثوبك مُعَدًّا ، وتعود ويعود إلى كذبه ، حتى يمضى العيد أو الزفاف ، ولا يبقى للثوب فائدة ، وربما جعله قصيرًا أو ضيقًا أو معتلا أو مضاعفًا أو مجوفًا .. أو على خلاف ما استصنعته عليه ولا حيلة لك فيه ، ولا سبيل إلى إصلاح ما فسد ، فتلبسه مكرهًا أو تلقيه في دارك حتى تأكله ( العثة ) والأرضة ...
 
* * *
 
وهذه الحال من إخلاف المواعيد ، واختلاق الأكاذيب ، عامة في أرباب الصناعات في بلادنا لم ينج منها إلا الأقل الأقل ممن عصم ربك . ولقد وقع لي أني كنت على جناح سفر إلى العراق ، وقد أعددت له كل شيء ، واتخذت لي مكانًا في السيارة ولم يبق إلا يوم واحد فخطر لي أن أبعث إلى الكوَّاء [ المكوجي ] بحلتي الجديدة لكيّها حتى إذا نزلت بغداد لبستها صالحة ، وبيَّنت له استعجالي ونفضت إليه قصة حالي ، ونهيته أشد النهي عن غسلها ؛ لأنه يفسدها ويؤخرني عن غايتي ، فما كان منه إلا أن غسلها ، طمعًا بفضل أجرة ينالها ، فأفسدها وجعلني أسافر وأدعها ..
- وآخر الكوائين غسل معطفي بصابون له مثل رائحة الخنازير الأهلية .. فلم أستطع لبسه وحملته إليه ووبخته ، فما كان منه إلا أنكر أن يكون له تلك الرائحة ( وإنها لتشم منِ مسافة فرسخ ) ، وقلت : شمّها أليس لك أنف ، فشمها بمثل خرطوم فيل . وقال : ما بها شيء ! فكدت أنشق من غيظي وقلت لجماعة عنده : شموا بالله عليكم . فمدوا أنوفهم إليها ونظروا إليه ، وقالوا بلسان واحد مثل مقالته ... فاضطررت إلى أن أخرج فأدفع الثوب إلى فقير وإني لفقير إلى مثله ! .
- واحتجت مرة إلى عامل يصلح لي طائفة من المقاعد ، استقبل عليها ضيفي وأكرم بها زواري ، وهي وحدها التي أخشى اللصوص عليها ، لأنها خير ما في الدار ، حاشا الكتب ، فدلوني على رجل له دكان ظاهر في شارع كبير ، وفوقه لوحة كتب عليها اسمه وصناعته ووصف براعته وأمانته ، فأنست به وكان كهلا مشقشق اللسان ، وأخذته فأريته المقاعد واستأجرته لإصلاحها ، ودفعت إليه أكثر الأجرة مقدمًا ، وتركته ووكلت أخًا لي صغيرًا به ، وذهبت إلى عملي لم أرجع إلا المساء ، فوجدت الرجل قد يعج بطون الكراسي وأخرج أحشاءها ، وكسر عظامها وأرجلها ، ولم يقدر على إعادتها سيرتها الأولى لأنه جاهل بالصناعة ، فهرب وذهبت أفتش عنه حتى قبضت عليه ، وأعدته إلى الدار ، فاجتهد جهده ، فكانت غاية ما استطاعه أنه جعل من مقاعدي المريحة آلات التعذيب ، ومقاعد للآذى ، إن لم يشق ثوب القاعد عليه مسمار ظاهر منها ، ثقبت ظهره خشبة بارزة ، أو كان مجلسه على أحدّ من شوك القتاد ، وقبض الأجرة كاملة غير منقوصة ..
 
* * *
 
ولو شئت أو لو شاء القراء لَسَرَدت ثلاثين واقعة ، ما هذا الذي ذكرت بأشدَّ منها ولا أعجب ، فأين تقع الأمانة في نفوس هؤلاء الذين يدعون أنهم من المسلمين .
وكيف أصنع إذا كان هؤلاء ( المسلمون ) لا يُوثق بهم ، ولا يُطمئن إليهم ، أأعامل الأرمني والرومي والصهيوني وأقاطع بني ديني ووطني ؟
 
أما إنه لخطب جسيم – فماذا تصنع المدارس ومُعلموها ، والمساجد وواعظوها ، والصحف وكاتبوها ، إذا لم يعلنوا على الخيانة حربًا لا هوادة فيها ولا مسالمة حتى يكون النصر عليها ؟ وكيف لعمر الحق يكمل لنا استقلال ، أو تتم سيادة ، أو نجاري شعوب المدنية ونسابقها ، إذا لم تسد الأمانة فينا ، وإذا كان الواحد منا لا يستطيع أن يطمئن إلى أخيه ولا يعتمد على أمانته ؟ وإذا كنا نقلد الغربيين في الشرور فلماذا لا نقلدهم في الصدق في المعاملة والوفاء بالوعد ، والاستقامة في العمل ؟
 
أمَا إن من أشكال الأمانة وصورها ، أن القلم المتين ، واللسان البليغ ، أمانة في يد الكاتب والخطيب ، فإذا لم يستعملاهما في إنكار المنكر ، والأمر بالمعروف ، والدعوة إلى الإصلاح ، كانا ممن خان أمانته ، وأضاعها ، وفرَّط فيها .. فلينظر لنفسه كل كاتب وشاعر وصحفي وخطي !
 
على الطنطاوي ( دمشق )

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين