وحي الطبيعة

"تأمل يومًا بعد يوم"، بهذا العنوان استطاع الكاتب "كريستوف أندريه" إثارة فضولي لتصفح كتابه، إضافة إلى أنني في الآونة الأخيرة بتُّ محاطًا بكمية فظيعة من المشتتات. لم يكن نسق حياتي يسير على ما يُرام، كنت واثقًا أن ثمّة خطأ في مكان ما، صار من الواضح مليًّا أنني لم أعد قادرًا على المتابعة بتركيز وانتباه؛ ما جعلني أبحث عن أي شيء قد يعيدني لنفسي ولو بعض الوقت، أردت التقاط أنفاسي في سباق التشتت، بل بالأحرى، أردت الانسحاب من السباق. لا أريد أن أعيش حياتي راكضًا، أريد أن أعيش مرتاحًا مطمئن البال. وقد شجعني على قراءة الكتاب -أيضًا- النصائح الكثيرة التي نسمعها كل يوم من أشخاص مارسوا اليوغا، ورأوا من عظيم أثرها شيئًا عجبًا جعلهم ينصحوننا بممارستها.

ومع الأخذ باعتبار أن اليوغا تتصل بطريقة أو بأخرى بالمعتقد البوذي، لم أكن لأؤمن بها من حيث المبدأ؛ إذ كنت أرى ممارسيها مجموعة غريبي أطوار لا أكثر، يزعمون أنهم بجلسات غريبة، وحركات معينة، يجلبون السلام ويطردون الأسقام! وبطبيعة الأمر، لا تخلو اليوغا من اعتقادات قلبية ومشاعر روحانية، فالموضوع أكبر من كونه ممارسات جسدية مجردة.

كان الكتاب لطيفًا بحق، وإضافة ثريّة لمعلوماتي القليلة عن النفس البشرية وخصائصها. لست في صدد تلخيص للكتاب، إنما أود الإشارة هنا إلى الفكرة الأهم التي تمحور حولها.

يعتقد الكاتب -وهو مدرب احترافي في التأمل- أن على الإنسان أن يعيش بعض لحظات يومه لمجرد العيش فقط، لا لشيء آخر، فينصت إلى ما حوله مغمض العينين لا يسمع أصوات الطبيعة إلا ليسمعها، ولا نعني بأصوات الطبيعة زقزقة العصافير، وهدير الينابيع، وحفيف الأشجار فقط، بل كل صوت تسمعه طبيعيًّا من مصدره هو في حقيقته مدعاة تأمل وإنصات، فصوت الجيران مثلًا يتسامرون في الشرفة المقابلة قد يكون في تأمله مخرجٌ من حالة شتاتك؛ إن أنت أخذته صِرفًا مجردًا من كل أبعاده، فلا تتلقى أصواتهم إلا كما تتلقى زقزقة العصافير، وكأنك لا تفهم ولا تعبأ بما تنعكس عليه من معان وقصص وأخبار، هي مجرد أصوات، وأنت مع استماعك ذاك تحاول جاهدًا طرد كل فكرة تطرأ على عقلك قد تصرف تفكيرك باللاشيء إلى شيء آخر أقل أهمية منه مهما عظُم، كل فكرة قد تطرأ عليك أثناء التأمل يجدر بك طردها من عقلك؛ فالتفكير قد يكون عالة على الإنسان في أحيان كثيرة، وعلى عكس ما يقول ديكارت: "أنا أفكر، إذًا أنا موجود"، يرى الكاتب أن الصحيح ما يعتقده فيلسوف آخر: "أنا أفكر أحيانًا، وموجود أحيانًا أخرى"، فاللحظات الحقيقية من عمر الإنسان هي تلك التي يعيشها بذهن صاف خال من أي أفكار، ولو نظر كلٌّ منا إلى عقله وراقب الآلية التي يعمل بها؛ لرآه مستغرقًا في التفكير ينتقل من فكرة إلى أخرى بشكل مستمر.

لا يهتم عقلنا بماهيّة الأفكار التي تدور فيه؛ صغيرة كانت أم كبيرة، عظيمة أم تافهة، كل هذا لا يهمه، المهم عنده ألا يتوقف عن التفكير. ومع بداية عصر السرعة أعاد العقل آلية عمله تماشيًا مع الواقع الجديد؛ فراح ينتقل من فكرة إلى أخرى بسرعة هائلة، ولا تراه يتم فكرة على بعضها، فيجد الإنسان نفسه في سباق مستمر مع خصم مجهول، يركض ويتعب دون سبب، المهم أن يستمر دون توقف.

إذًا، فالتأمل -برأي الكاتب- هو النظر إلى الأشياء نظرة سطحية، والاستلهام منها بحالتها تلك، وعلى عكس ما يبدو للقارئ، فالموضوع فعّال بطريقة ملفتة، وقد قررت تجريب الأمر، فأعددت لنفسي زاوية في شرفتي ألزمها قُبيل الفجر وبُعيد الإشراق، كنت أتربّع، وأغمض عينيّ، وأراقب حركة تنفسي -كما ينصح الكاتب تمامًا-، كنت أنصت بجسدي كله لا بأذني فقط إلى كل ما في الطبيعة من زقزقة عصافير، وحفيف أشجار، وخرير مياه نوافير البناء المجاور، كان عواء الكلاب يباغت المشهد تارة، ونعيق الغربان تارة أخرى، ولم تكن هذه الأصوات المباغتة لتعيق عملية التأمل، كانت لحظات عظيمة، خالية من كل شيء إلا الطبيعة مجردة، وكأن الطبيعة تهب نفسها لمن يتأملها بكل ما فيه من حواس.

كنت أشعر بنفسي حقًّا، وأدرك موقعي من الدنيا، وكل ما يحيط بي، كنت حاضر الذهن، كان شعورًا غريبًا إلى أن قطعه صوت المؤذن: "الله أكبر، الله أكبر"، ويا إلهي، ويكأن الحياة كلها سكنت، ويكأن الوجود كل الوجود جلس بجانبي مستغرقًا يستمع. لم أشأ قطع تركيزي، لكني أخذت أردد مع المؤذن بلساني أولًا، ثم بقلبي ثانيًا، وإذا بتركيزي على اللاشيء يقل، وينتقل إلى أعظم شيء، أخذت أتأمل الأذان بكلماته سُنّة كونية سامية، شرعها إله حق أوحد، خلقني وخلق هذه الطبيعة التي يراني منشغلًا بها أتأملها سطحية دون أن أنظر إلى ما وراءها من معان هي الأصل فيها، ثم أخذت أتأمل هذه الطبيعة مسخرة لنا، لا توصلنا لشيء إلا إليه -سبحانه-؛ ورأيت الطبيعة ماثلة أمامي بثوبها الساحر تقول لي: هأنذا يا ابن آدم، هأنذا أقف أمامك بكل ما أبدع الله فيّ من معاني الحسن والروعة، فاستلهم مني ما شئت، تُه في سهول جمالي، وغُص في بحار بهائي، فإذا أنا سلبتك لبّك، وملكت عليك قلبك؛ انتهبتَ، وتذكَّرتَ أني صنعة ربك، خلقني لأدلّك عليه، لا لشيء آخر.

حذار ثم حذار يا ابن آدم أن تظن أني خَلقتُ نفسي، أتُرى جمالًا كجمالي يخلق نفسه؟! لا أحمق منك يا ابن آدم، خلقني ربك فأبدعني دالة لك عليه، ثم أنت تعبدني وتذر ربك! ويحك يا ابن آدم، أي ظالم أنت؟! اللهم إني أبرأ إليك من ظلم بني آدم. أي رب! كيف لي أن أخلق نفسي، وأنا بكل ما أبدعته فيّ من كائنات أسبح بحمدك وأقدس لك!

ثم تركتني الطبيعة غارق الفكر، وانتبهت من فكرتي على زقزقة العصافير، فما فسرتها إلا أصوات مخلوقات تسبح خالقها كأحسن ما يكون، وفطنت لكونها -كابن آدم- لم تخلق إلا لذاك، ثم طاف بي الفكر مرة أخرى أبعد مما طاف، فإذا بي بأشرف الخلق، محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء تتأمله الطبيعة، ويتأمل هو ما وراءها من معان كلها دالة على صانعها، وقد كان في تأمله ذاك أعظم المتأملين -عليه الصلاة والسلام-، حضرته معاني الحياة كلها، وتبدّى له الوجود بأسراره صافيًا كأوضح ما يكون، ثم أيَّده الله بالوحي الإلهي، فزاده نورًا على نوره، وبصيرة إلى بصيرته، ثم حضرني قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ}، فسبَّحت الله، وراجعت ما كنت أصنع، وقِسته بمقياس الآية الكريمة، فوجدتني أبعد ما أكون عن التأمل، أشد ما أكون ظلمًا لنفسي، في غفلة عن الحق الذي كانت الطبيعة بكل ما فيها تدعوني إليه. ثمَّ إذا بي والمؤذن يصدح: "حي على الفلاح، حي على الفلاح".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين