نحن والغرب جدلية إقامة المسلمبن في بلاد الغرب .. الخضوع للقانون أم للشرع؟

من المشكلات التي تواجه الشباب المسلم الذي يسافر إلى الغرب للدراسة أو للعمل أو للهجرة، قضية التعامل مع القوانين السائدة، لأن الصورة المزروعة في لا وعي المسلم أنها بلاد كفر وأحكامها أحكام كفر وبالتالي لا يجوز للمسلم أن يخضع لها.

هذا المنطق خطأ في التصور وخطأ في المنطلق. والتصورات الخاطئة تنتج أحكاما خاطئة. فإذا كان هذا التصور خاطئا، فما التصوير الصحيح للمسألة؟ 

الحكم على الشيء فرع عن تصوره

من قواعد الفقه في الإسلام، قاعدة (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) ويقصدون بذلك الأحكام المبنية على العُرف لأنه يختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى آخر، فقديما مفهوم الوطن يختلف عنه اليوم، والانتقال بين البلدان أيضا يختلف عنه الآن. إلا أنه يوجد بين الأزمنة قاسم مشترك، وهو عقد الأمان. وهو اتفاق بين شخص ينتمي إلى قوم بينهم وبين المسلمين حرب، يريد أن يدخل بلاد المسلمين فيطلب الأمان، فيصبح مثله مثل أهل الذمة، ويلزم حينها بتطبيق القوانين التي تطبق على أهل الذمة في ديار الإسلام.

ومثله إذا أراد مسلم أن يدخل ديار قوم بينهم وبين المسلمين حرب فإنه يدخل بلادهم بعقد أمان، ويصبح ملزما بمراعاة القواعد العامة التي تحكم البلد، ولا يعني بالضرورة فعله ما يخالف الشرع، فيستطيع أداء الشعائر الدينية، ولا يشرب الخمر، ولا يأكل ما لا يحل.. إلى آخره .. فهذه الأحكام فردية يمارسها بإرادته ولا يوجد ما يجبره على فعل ما خالفها.

هذا من حيث الأصل في التعامل بين اختلاف الدارين: دار حرب ودار إسلام. وهذا بحسب التقسيم الذي كان قديما. علما أن هذا التقسيم من وضع الفقهاء توصيفا للواقع الذي كان سائدا.

تغيرات الجغرافيا والديموغرافيا

هذا الواقع نجده اليوم مختلفا، فالعالم بات أشبه بمدينة واحدة، والناس تداخلت فيما بينها بشكل كبير، والحرية الدينية متاحة في غالب البلاد، وبالتالي لم يعد من مسوغ لتقسيمها إلى دار حرب ودار إسلام، وغالب البلاد شعائر الإسلام تظهر فيها، من مثل الأذان، والصلاة، والصوم، وهذا عند الشافعية يجعل من البلاد التي تظهر فيها هذه الشعائر بلاد إسلام، وعليه فالكتابات التي لا زالت تقسم العالم ذلك التقسيم الفقهي القديم هي كتابات تتكلم عن واقع يكاد يكون غير موجود.

إلا ان القدر الوحيد المشترك هو (عقد الأمان) الذي يقابله اليوم (تأشيرة الدخول) فهي إِذنٌ للشخص لدخول بلد ما بشروط، أهمها أن لا يخالف الانتظام العام، أي: أن لا يرتكب مخالفات قانونية. ولكنها لا تتدخل في حياته الشخصية واختياراته الدينية، بل حريته الدينة متاحة ويكفلها الدستور عندهم.

ولكن إذا أردنا أن نجري مقابلة الآن بين بلاد المسلمين وبلاد الغرب سوف نجد مفارقات عجيبة تحتلف كليا عن كل ما هو مذكور في كتب الفقه القديمة!

فالمسلم لا يقدر على دخول بلد مسلم آخر اليوم ، مثلا، من دون تأشيرة، فصار الأمر سواءً مثله مثل أي بلد آخر غير مسلم، لا فرق بينهما البتة، وعليه فلم يعد للعيش في بلد مسلم مزية على العيش في بلد غير مسلم، لأن كلا البلدين الناسُ تؤدي فيهما شعائرها الدينية بكل حرية، وزيادة على ذلك: البلاد المسماة غير إسلامية أنظمتها عادلة أكثر بكثير من البلاد التي تدعي دساتيرها أنها مسلمة، علما أن الحكم في الإسلام يقوم على العدل لا على الدين، فقد قال الله تعالى: (إن يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى) وقال تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قولته المشهورة: «إن الله تعالى ينصر الدولة العادلة وإن لم تكن مسلمة، ولاينصر الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة).

هذه القضايا هي التي تحكم تعامل المسلم مع أنظمة الدول التي يعيش فيها، وهي من حيث العموم غير مسلمة، إلا أن دساتيرها وأحكامها في أغلبها عادلة، وبالتالي لا مشكلة في أن يعيش فيها، وقد وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من صحابته الهجرة إلى الحبشة هروبا من جبروت قومهم في مكة، لأن الحبشة فيها ملك لا يُظلم عنده أحد. وعاش المسلمون تحت ظل عدله تسع سنين ، وهو نصراني غير مسلم، ولكنه عادل.. 

وعليه فإن التزام المسلم بدساتير الغرب اليوم لا مشكلة فيه ، لأنها تقرر العدل الذي هو في الأصل مطلوب شرعي.. والله أعلم.

أحاديث النهي عن الإقامة بين ظهراني الكافرين

هنا تطرح إشكالية، وهي محقة، ومفادها: ماذا نفعل بالأحاديث الواردة في تحريم الإقامة بين ظهراني الكافرين؟ وألا تتراءى ناراهما؟ وهو كناية عن البعد التام عنهم؟

والجواب: أن هذا كان حضا من النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين المقيمين بين ظهراني قومهم المشركين الذين يؤذونهم ويضطهدونهم أن يهاجروا إلى المدينة. وحتى لو لم يُضطهدوا فإنه كان الواجب عليهم اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، لذلك قال الإمام ابن الأثير في (النهاية): « وإنما كره مُجاورة المشركين؛ لأنهم لا عهد لهم، ولا أمان، وحثُ المسلمين عَلَى الهجرة».

وهذا الأمر نلمحه في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾، ومعلوم أن هذا الآية جاءت بيانا لحال الذين قعدوا عن الهجرة، وآثروا البقاءَ في دار الكفر.

ونلمحه أيضا في قوله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ وقد نزلت في بيان أمر المنافقين الذين يزعمون ظاهرا أنهم مسلمون، ثم يبقون في قومهم غير المسلمين قائمين على ما كانوا عليه من الكفر، فهؤلاء الهجرة في حقهم واجبة لأنها الفصل بين الادعاء بالإسلام والقيام بأحكامه.

كل هذه المحاذير لم تعد قائمة بعد فتح مكة، لذلك قال صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد الفتح). 

ثم إن حديث النهي عن الإقامة بين ظهراني المشركين له سبب ورود، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أرسل سرية إلى الخثعميين، فلما رأوا المسلمين قد صاروا في أرضهم عمد بعضهم إلى إظهار الصلاة ليحفظ نفسه من القتل، فلم ينفع ذلك وقتلهم المسلمون مع من قتلوا من الكافرين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تدفع نصف ديتهم لأنهم أظهروا شعيرة من شعائر الإسلام، ولم يأمر لهم بدية كاملة لأنهم كانوا مقيمين بيم قومهم المشركين، وبهذا لا يتميزون عنهم في الحروب. لذلك جاء بقية الحديث في النهي عن الإقامة بين المشركين. فعرفنا أن هذا بسبب الحروب القائمة بين المسلمين وأعدائهم، لأجل ألا يُقتلَ مسلم خطأ، ولأجل تمايز المسلمين عن المشركين.

ونحن لو نظرنا اليوم لوجدنا أن هذه المحاذير منتفية، وعليه فلا مانع من الإقامة في بلاد غير المسلمين، وهو ما أفتى به كثير من العلماء: 

ففي فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (4/52 - 54)، جاءت العبارة الآتية:

«وقد سُئل العلامة الشمس الرملي الشافعي عن جماعة من المسلمين يقيمون في جزء من بقايا الوطن بالأندلس يقال له (أراغون) وهم في ذمَّة السلطان النصراني المسلَّط عليهم، يأخذ منهم خراج الأرض بقدر ما يصيبونه منها، ولم يتعدَّ عليهم بظلم لا في أموالهم ولا في أنفسهم، ولهم جوامع يصلُّون فيها، ويظهرون شعائر الإسلام عيانا، ويقيمون شريعة الله جهرا، فهل تجب عليهم الهجرة أو لا؟

فأجاب بقوله: «لا تجب الهجرة على هؤلاء المسلمين من وطنهم، لقدرتهم على إظهار دينهم به، ولأنه صلى الله عليه وسلم، بعث عثمان يوم الحديبية إلى مكة لقدرته على إظهار دينه بها، بل لا تجوز الهجرة منه، لأنه يرجى بإقامتهم به إسلام غيرهم، ولأنه (دار إسلام)، فلو هاجروا منه صار (دار حرب)». 

فعرفنا من هذا أن الأمر متعلق بالقدرة على إظهار شعائر الإسلام، وهذا حاصل في الغرب بكل حرية، وبالتالي لا يوجد ما يوجب (الهجرة) اليوم. وعرفنا أن الأمر من باب السياسة الشرعية القائمة على مراعاة المصالح المعتبرة أو المرسلة. 

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين