في رحاب الحج ... والعشر الأول من ذي الحجة (3)

المعاني اللطيفة لمناسك "الحج" الشريفة

معظم أعمال الحج تعبُّدية، ولكن بعضها ظهرت حكمته، وخفي الآخر، ليكون المسلم مستسلماً لأمر الله، منقاداً لربّه ومولاه. وقد سُئل ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ عن الحكمة من أفعال الحج، فقال: "ليس من أفعال الحج ولوازمه شيءٌ إلا وفيه حِكمة بالغة، ونعمةٌ سابغة، ونبأٌ وشأن، يقصر عن وصفه كل إنسان". 

فمثلاً: 

• عندما يتجرد المؤمن من سائر الثياب ويتخلى عن مظاهر الترف والتنعم كالتطيّب والنساء.. ويقتصر على ثياب الإحرام البيضاء (المئزر والرداء).. فإنه ينسلخ بذلك من الأسباب التي تشده إلى الدنيا، فيمضي حياً بكفن الأموات، متذكراً مصيره المحتوم الذي سيؤول إليه كل إنسان وهو الرحيل عن الدنيا بالموت.. ويتمثل قول الشاعر: 

فلا تغــرنَّك الــدنيا وزينتهــا =وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن.

وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعهـا =هل راح منهــا بغير القطن والكفن

يا نفس ويحك توبي واعملي حسـنا= عسـى تُجزين بعد الموت بالحسـن.

كما أنّ الناس بثياب الإحرام يتساوون في المظهر فلا يتميز العظيم عن الوضيع ولا الغني عن الفقير ، لا تيجان ولا عمائم ولا شارات ولا ربطات عنق ولا ثياب شهرة...فالرجل المُحرِم حاسر الرأس حافي القدمين عار الا مما يستر العورة ، يرتدي ثياب العبيد و الخدم والتذلل لله رب العالمين . والمرأة المُحرِمة تكشف عن وجهها وكفيها ، لا فرق في ذلك بين الحرة والأمة .

• وعندما يردد الحاجّ (التلبية)... فإنه يعلن بذلك عن إجابته لنداء الله عزّ وجلّ القائل: (وأذّن في الناس بالحج.....} فعلى المؤمن أي يستشعر معنى الاستجابة لله تعالى وهو يردد هذا الهتاف الخالد بقلب خاشع يرجو رحمة الله ويخاف عذابه. 

وهو نداء يتصل فيه الماضي بالحاضر وأهل الأرض مع أهل السماء ، وهو نشيد المسلم العالمي يردده ضيوف الرحمن جميعا بصوت واحد عند الإحرام وفي معظم المناسك ، فتقشعر من روعته الأبدان وتتحرك القلوب والوجدان ... يملأون به الفضاء والأرجاء ، بالتعظيم والتقديس والحمد والثناء لرب الأرض والسماء .

• أما الطواف، فإن المقصود الأعظم منه هو طواف القلب بذكر ربِّ البيت العتيق ـ سبحانه وتعالى ـ وربّ كل شيء ومليكه..( وليطوفوا بالبيت العتيق ) وأنه بذلك يعلن عن استسلامه الكامل وانقياده التام لله رب العالمين ، كأنه ذرة صغيرة في ملكوت الله الواسع العظيم يدور كما أراد الله بكل تذلل وانكسار لله العلي الجبار الى جانب ذرات الكون ومجراته ( وكل في فلك يسبحون ) .

وليعلم الحاج أن الطواف بالبيت صلاة غير أنه يحل فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير.. وليعلم أيضاً أنه بطوافه حول الكعبة إنما يتشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش والطائفين في البيت المعمور. قال تعالى: (وترى الملائكة حافّين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم}[الزمر: 75]. 

• أما استلام الحجر الأسود وتقبيله ـ إن أمكن ـ .. فليدرك المؤمن إنه بذلك يُبايع الله على التقوى والتوبة، والطاعة والتضحية في سبيله تعالى..

وإنها لَبيعةٌ ثقيلة ومسؤولية جسيمة (إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسوف يؤتيه أجراً عظيماً}[الفتح:10]. 

وليدرك أيضا أنه أمام حجر من أحجار الجنّة، عنده تُسكب العبرات وتُستجاب الدعوات ، و أنه يشهد يوم القيامة لمن استلمه بحق .

• أما السعي بين الصفا والمروة (ذهاباً وإياباً) فهو عبارة عن شدة إلحاح المؤمن في استمطار الرحمة، وإظهار الخلوص في الخدمة والتفاني في الطاعة لله تعالى، رجاءً للملاحظة بعين الرضا والرحمة... وأنه يتشبه بأم المسلمين هاجر عليها السلام وهي تسعى في نفس المكان بلهفة وحنان لا ترجو إلا الله ، فاستجاب الله لها سعيها ودعاءها وفجر الماء من تحت أقدام ولدها .

• أما الوقوف في عرفات يوم عرفة.. حيث يزدحم الخلق في أرض غبراء.. شعثاً غبرا.. ترتفع أصواتهم بمختلف اللغات بالتضرّع والدعاء بقلوب وجله وعيون باكيه لربها تائبة.. كأنهم قاموا من قبورهم لربّ العالمين.. مبتهلين خاشعين.. هذا المشهد يجب أن يهز النفوس هزا ويشدها شداً لتذكر يوم البعث والحشر والحساب (يوم يُنفخ في الصور فتأتون أفواجا}[ النبأ : 18 ]. 

وهو الموقف الذي تتنزل فيه الرحمة وتتحقق فيه المغفرة ويستجاب فيه الدعاء وهو ركن الحج الأعظم .

• وأما رمي الجمار في مِنى.. فهو كناية عن رجم وجه إبليس وإعلان البغض والعداء له ولجنوده وحزبه من شياطين الأنس والجن وطواغيت الأرض.. قال تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر:6]. وفيه يؤكد المؤمن الحاج أنه لن يعود بعد اليوم إلى سبيل الشيطان بعد أن منّ الله عليه بالغفران التام .

• أما ذبح الهّدي والأضاحي.. فهو تدريب للنفوس المؤمنة على التضحية والفداء والبذل والسخاء في سبيل الله .. كما أنه يتذكر الذبيحة العظمى التي حصلت في نفس المكان والزمان، قال تعالى: ( فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ، قال يا أبت افعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ، فلما أسلما وتلّه للجبين ، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ، إن هذا لهو البلاؤ المبين، وفديناه بذبح عظيم ) الصافات ١٠٢ -١٠٧.

وسُئل (صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الأضاحي فقال: (سُنّة أبيكم إبراهيم) قالوا: "فما لنا فيها يا رسول الله. قال: (بكل شعرةٍ حسنة)... رواه ابن ماجة والحاكم بإسناد صحيح. 

فما أحوج المؤمنين إلى تدبر هذه المعاني اللطيفة والعبر العظيمة التي تفيض بها مناسك الحج ومواقفه الشريفة.. وما ذكرناه ما هو إلا غيض من فيض ونقطة في بحر.. فنسأل الله أن يفتح قلوبنا لفهم أوامر الله فنتذوق حلاوة معانيها ونزداد تعظيماً لشعائر الله (ومن يُعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) [الحج:32]. 

أعظم أيام الله

مَن فاتته المِنّة العظمى والفريضة الكبرى وهي الحجّ والعمرة إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة.. فينبغي أن لا تفوته بركة الأيام العشر الأوائل من شهر ذي الحجة الفضيل. روى البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال، قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم ): "ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام ـ وفي رواية: من هذه العشرـ قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء". 

وفي حديث آخر قال (صلى الله عليه وسلم ): "ما من أيام أعظمُ عند الله، ولا أحبُّ إلى الله فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير".. [رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح]. 

كما يُستحب صيام هذه الأيام، وخصوصاً يوم عرفة [لغير الحاج]، لقوله (صلى الله عليه وسلم) عن "صوم عرفة يُكفِّرُ السّنة الماضية والباقية" [رواه مسلم].

أعظم يوم

وحَسْبُ هذه الأيام فضلاً أن فيها يوماً من أعظم أيام الله، هو يوم عرفة الذي ينتشر فيه الحجيج في أرض واحدة، غبراء عفراء، كأرض المحشر، يفترشون الأرض الجرداء ويلتحفون السماء، والشمس فوق رؤوسهم ترسل أشعتها الحارة على أجسادهم المكشوفة إلا من ثياب الإحرام (المئزر والرداء)، شُعثاً غبرا، كأنهم قاموا من قبورهم لربّ العالمين، ملبين خاشعين، بقلوب وجلة، وعيون باكية لربها تائبة، متضرعين إلى الله، راجيين هداه وطالبين عفوه ورضاه. 

ولأهمية هذا اليوم العظيم قال(صلى الله عليه وسلم): "الحجّ عرفة" [رواه أبو داوود وغيره]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثاً غبراً ، اشهدوا أني قد غفرت لهم »رواه أحمد .

وما روته عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو يتجلى، ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ ». [رواه مسلم].

وهو يوم الدعاء المستجاب ففي الحديث : " خير الدعاء يوم عرفة ، وخير ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " رواه الترمذي.

وهو يوم تتجلى فيه الوحدة الإسلامية بأبهى صورها ، حيث يجتمع الحجيج جميعا في صعيد واحد ، حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يتذكرون وصاياه العظيمة في خطبة الوداع البليغة : " أَيهَا النّاسُ، إنّما المُؤمِنُونَ

إخْوةٌ ، فَلاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ مَالُ أَخيهِ إلاّ عَنْ طيبِ نفْسٍ منهُ، أَلاَ هَلْ بلّغْتُ ؟ اللّهُم اشْهَدْ، فلا تَرْجِعُنّ بَعْدِي كُفاراً يَضرِبُ بَعْضُكُمْ رقابَ بَعْض ، فَإنّي قَدْ تَركْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذتمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ :كِتَابَ اللهِ وَ سُنَّة نَبيّه ، أَلاَ هَلْ بلّغتُ ؟ اللّهمّ اشْهَدْ.

أيها النّاسُ إن رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإنّ أَبَاكُمْ واحِدٌ ، كُلكُّمْ لآدمَ وآدمُ من تُراب، إن أَكرمُكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ وليس لعربيّ فَضْلٌ على عجميّ إلاّ بالتّقْوىَ، أَلاَ هَلْ بلَّغْتُ ؟ اللّهُمّ اشهد " قَالُوا: نَعَمْ قَال: فلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ " سيرة ابن هشام ٤ / ٦٠٣.

وختامها عيد

إن عشر ذي الحجة أيام كلها خير وبركة، يقضيها المسلمون الأتقياء في عبادة وطاعة وتقوى وبِر، متسابقين إلى العمل الصالح، حتى إذا شارفت على النهاية، أظلهم الله بيوم عيد الأضحى المبارك، الذي تعمُّ بهجته قلوب المسلمين.

ويوم عيد الأضحى هو أيضا من أفضل الأيام عند الله تعالى ، ففي الحديث : " أعظم الأيام عند الله يوم النحر وثم يوم القر" رواه أحمد وغيره . ويوم القر يوم المبيت بمنى . وعند االترمذي مرفوعا : " يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدكم أهل الإسلام ... " وأيام التشريق هي الأيام الثلاثة التي تلي عيد الأضحى أي يوم النحر .

وافضل الأعمال في هذه الأيام بعد الوقوف بعرفة نحر الهدي والأضاحي بعد صلاة العيد وحتى غروب شمس آخر أيام التشريق مع التكبير من فجر يوم عرفة حتى عصر آخر أيام التشريق . عن عَائِشَةَ رضي الله عنها :أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّم قال :(ما عملَ آدميٌّ من عملٍ يومَ النَّحرِ أحبُّ إلى اللهِ من إهراقِ الدَّمِ ،إنَّهُ ليؤتى بها يومَ القيامةِ بقُرونها وأشعَارِها وأظلافِها وإنَّ الدَّمَ ليقعُ من اللهِ بمكانٍ قبلَ أن يقعَ من الأرضِ فطيبُوا بها نفساً) رواه الترمذي وابن ماجه..

فائدة لطيفة حول تسمية أيام الحج :

*اليوم الثامن من ذي الحجة يوم التروية : لأنهم كانوا يرتوون فيه الماء لحمله استعدادا لعرفة والمشاعر .

*اليوم التاسع يوم عرفة : لوقوفهم بها وهو أعظم أعمال الحج.

*اليوم العاشر يوم النحر :لنحر الهدي فيه وهو يوم الحج الأكبر ففيه رمي جمرة العقبة الكبرى وفيه ذبح الهدي وفيه الحلق أو التقصير وفيه طواف الإفاضة وسعي الحج.

*اليوم الحادي عشر يوم القرّ : لأنهم يستقرون فيه بمنى بعد تنقلهم في المشاعر.

*اليوم الثاني عشر يوم النفر الأول: لمن أراد أن يتعجل بمغادرة منى .

*اليوم الثالث عشر يوم النّفر الثاني : لأنهم ينفرون فيه من منى لمن أراد أن يتأخر.

قال تعالى :( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )البقرة (203)

والمعنى : "واذكروا الله تسبيحًا وتكبيرًا في أيام قلائل، وهي أيام التشريق: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة. فمن أراد التعجل وخرج من "مِنى" قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمار فلا ذنب عليه، ومن تأخر بأن بات بمِنى حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث عشر فلا ذنب عليه، لمن اتقى الله في حجه. والتأخر أفضل؛ لأنه تزوُّد في العبادة واقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم. وخافوا الله- أيها المسلمون- وراقبوه في كل أعمالكم، واعلموا أنكم إليه وحده تُحْشَرون بعد موتكم للحساب والجزاء" التفسير الميسر .

أيها المسلمون في كل مكان:

ها هي أيام العشر من ذي الحجة قد أظلّتكم بإشراقاتها المباركة، فاغتنموها بالعبادات المنبثقة من القلب وأكثروا فيها من العمل الصالح، ولترتفع دعواتكم من الأعماق ضارعة خاشعة أن يُحقق الله لأمة الإسلام آمالها ويغفر لها زلاتها وتقصيرها وأن يرد إليها عزّتها وسيادتها ووحدتها ويجمعها على كتاب ربّها وسُنّة نبيّها ويرد كيد الأعداء عنها وأن يُهلك اليهود الغاصبين وأعوانهم وسائر الظالمين وأن يُعيد المسجد الأقصى وفلسطين إلى حوزة الإسلام والمسلمين وأن ينصر المجاهدين في كل مكان ويرحم موتى المسلمين ويشفي جرحاهم ويفك أسراهم ويرفع الحصار ويرد العدوان عن أهلنا في غزة والقدس والضفة وأن يحقن دماء المؤمنين في الشام والعراق ومصر و بورما واليمن وليبيا ...ويصلح أحوال المسلمين في كل مكان ويُفرّج عن المنكوبين والمستضعفين في الأرض ويمنحنا النصر والسعادة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.

اللهم آمين والحمد لله ربّ العالمين .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين