أمرنا مترفيها

الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلاما على عباده المرسلين، لا سيما عبده محمدًا، وعلى آله وصحبه، وبعد:

فيقول الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].

هذه الآية الكريمة تبين القانون الذي وضعه الله تعالى لهلاك الأمم والشعوب، فالله تعالى عَدْلٌ لا يظلم مثقال ذرة، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فالله تعالى خلق الكون، ووضع له نواميس وقوانين، وكل خروج على تلك النواميس يحدث تصدعًا في بنية هذا الكون، ووضع الله تعالى كذلك سننًا ونواميس تحكم المجتمعات البشرية، فكل خروج عليها يحدث تدميرًا وخرابًا لهذه المجتمعات، هذا القانون هو الإصلاح، فبقاء المجتمعات البشرية مرهون بصلاح أهلها وإصلاحهم، فإذا فسقوا وفسدوا وأفسدوا، تهدمت المجتمعات ولحق بها الدمار.

وتعد كلمة (أمرنا) هي الكلمة المفتاحية في هذه الآية الكريمة، فهذه الكلمة مشحونة بعدد من الدلالات كلها مراد مطلوب، فقد قيل: إن المراد بعبارة (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا): أمرناهم بالطاعة فعصوا وخالفوا أمر الله تعالى، وقيل: كثَّرناهم، وقيل: جعلناهم أمراء، واللفظ من الناحية اللغوية يؤدي كل هذه المعاني.

فالنفوس البشرية بطبيعتها متخالفة متنافرة، لا تكاد تتفق على أمر واحد؛ لذا توضع القوانين المنظمة لسلوك البشر في المجتمعات الإنسانية، ولتنوع البيئات والثقافات تختلف أهواء الناس، فما يناسب قوما لا يناسب آخرين، وما يختاره جيل، تنبذه أجيال أخرى، لذا كان من الحكمة أن يخضع الجميع لناموس أعلى ينظم شئون حياتهم وسلوكهم، وأن يكون لهذا الناموس سلطان على نفوسهم وأهوائهم، فوضع الله تعالى الشرائع، وأمر بأوامر وحد حدودًا، وأمر العباد بالامتثال لهذه الأوامر، والانتهاء عند تلك الحدود، فإذا ما خالف الناس هذه الشرائع ركن كل واحد إلى هواه، والأهواء متباينة متنوعة بتنوع أفراد الجنس البشري، فإذا اتبع كل واحد هواه، عاثوا في الأرض فسادًا، فإذا ما أخذت المجتمعات على أيدي هؤلاء المفسدين كانت هذه المجتمعات صالحة مصلحة، تنفي خبثها أولا بأول، والإصلاح هو الضمانة التي وضعها الله تعالى لحفظ المجتمعات، فقال عز من قائل: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].

فإذا ما تخلت المجتمعات عن دورها الرقابي والإصلاحي، وتركوا المفسدين وما يشتهون، من الإفساد في الأرض، وظلم الناس، واتباع الشهوات، عاد فسادهم على المجتمع بأسره، يبدأ هذا الفساد قليلا لا يؤبه به، ثم يأخذ في الانتشار والتوسع حتى يعم المجتمع كله، ويصير أهل الصلاح شرذمة قليلين، فإذا صار المجتمع كله أو أغلبه فاسدا مفسدا وصل الفساد إلى قمة الهرم الاجتماعي والإداري، حيث يتولى الإمارة والحكم أكابر المجرمين في كل مجتمع، فيسري إلى المجتمع أسباب الانحلال والتفكك والهلاك، فتفسد الأخلاق، وتخرب الذمم، ويعم الفساد الإداري، وينتشر الفساد المجتمعي، فتنحل المجتمعات وتهلك، ويتسلط عليها أعداؤها، فيقتلونهم، ويدمرون حضارتهم، ويمحقون هويتهم، وآثار هذا الفساد تصيب البر والفاجر، ولا تفرق بين صالح وطالح؛ فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث". وصدق الله القائل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين