في رحاب الحج..والعشر الأول من ذي الحجة (2)

لماذا الحج؟

حتى يزداد المسلم إدراكاً لأهمية الحج وفضيلته ووعياً لأهدافه ومقاصده وشوقاً لمناسكه وشعائره.. وحتى يعرف المسلم لماذا فُرض الحج ولماذا يحج؟!! لا بد لنا من بيان بعض الحِكم الإلهية والدوافع الشرعية.. التي ينطلق منها المسلم لأداء هذه العبادة العظيمة بشوق وحنين وإخلاص ويقين.. وهي: 

1- الامتثال لأمر الله: فالحج فريضة شرعية.. يؤديها المسلم أولاً وقبل كل شيء عبادة وطاعةً لله وامتثالاً وتلبيةً لأمره عز وجل :(ولله على الناس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا}[آل عمران: 97]، واستجابة لنداء خليل الرحمن إبراهيم (عليه السلام ) :(وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍ عميق}[الحج:27]. [رجالاً: أي مشاة، ضامر: أي مركوب]. ويُروى أن سيدنا إبراهيم (عليه السلام ) صعد على جبل أبي قبيس في مكة بعد أن أتم بناء الكعبة، وقال: "يا أيها الناس إن ربّكم بنى بيتاً وأوجب عليكم الحج إليه، فأجيبوا ربكم" والتفت بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً، فأجاب كل من كُتب له أن يحج من أصلاب الرجال وأرحام الأمهات: "لبيك اللهم لبيك" تفسير الرازي 23 /27. 

2- إستكمال الإسلام: فالحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام فمن أدّاه بإخلاص وإتقان ـ مع باقي الأركان ـ فقد استُكْمِل إسلامه. قال(صلى الله عليه وسلم ): "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا "[رواه البخاري ومسلم]. 

3- التأكيد على (التوحيد) وتطبيقه عملياً: ففي الحج يتأكد ويتحقق توحيد الله تبارك وتعالى، حينما يهتف المؤمنون بقلوبهم وحناجرهم :"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".. فالمسلم بهذه الكلمات يُعلن عن حقيقة العقيدة التي يعتنقها وجوهر الرسالة التي ينتمي إليها وهي توحيد الله عز وجل وتنزيهه عن الشريك في العبودية والُملك والحاكمية، فلا معبود بحق إلا الله ولا حاكم ولا مشرّع، ولا مالك ولا مدبّر، ولا ضار ولا نافع سواه. 

قال تعالى: (وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} [الحج:26]. وفي الحج يتحقق ويتأكد توحيد الإتباع لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم )فهو الأسوة الحسنة و القدوة العليا لنا ، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة....} [الأحزاب:21]. 

ففي الحج يأخذ المسلم درساً عملياً في إتّباع رسول الله والسير على خُطاه في الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار في منى وذبح الهدْي.. ليتدرب من خلال هذه الأمور على الاقتداء بسيدنا محمد ( صلى الله عليه وسلم) في كل شأن من شؤون حياته. وما أجمل قول سيدنا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما خاطب الحجر الأسود قائلاً: "إني لأعلم أنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقبلك ما قبلتك" ،ثم بكى حتى سالت دموعه على لحيته وقال: "هنا تُسكب العَبَرات وهنا تُستجاب الدعوات" رواه الستة بألفاظ متقاربة. 

وفي الحج يتحقق ويتأكد التوحيد العملي لهذه الأمة والمساواة بين أبنائها حيث ينصهر الجميع في بوتقة الإسلام الخالدة، لباسهم واحد، وهتافهم واحد، ومناسكهم واحده، وربُّهم واحد، ودينهم واحد، وقبلتهم واحدة، ونبيّهم واحد، وكتابهم واحد وقضيتهم واحدة، لا يفرق بينهم لون أو لغة أو عرق أو مذهب أو فقر أو غنى، إنما هم كما قال تعالى (إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}[الأنبياء:92]. 

4- مغفرة الذنوب: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :"مَن َحجّ لله فلم يرْفُثْ ولم يفْسقْ رجع كيوم ولدته أمُّه" متفق عليه. 

5- الفوز بالثواب العظيم: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" رواه البخاري ومسلم. وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم): "الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاةٍ، والصلاة في بيت المقدس بخمس مئة صلاة" رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات وهو حديث حسن. 

6- استجابة الدعاء: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) : "الحُجّاج والعُمّار وفدُ الله دعاهُمْ فأجابوه وسألوه فأعطاهم" رواه البزار ورجاله ثقات. 

7- تربية النفس على الصبر على المشاق والزهد في الدنيا، لذلك شبّه النبي(صلى الله عليه وسلم) الحج بالجهاد. فقال لعائشة رضي الله عنها عندما سألتهُ فقالت: يا رسول الله: هل على النساء جهاد؟ قال: "نعم جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة. 

8- تهذيب الأخلاق والتزد من التقوى: قال الله تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإنّ خير الزاد التقوى واتّقون يا أولي الألباب} [البقرة: 197].. وقال(صلى الله عليه وسلم) لفتى يلحظ النساء ـ ينظر إليهن ـ يوم عرفة... "إن هذا يوم من ملك فيه سمْعه وبصره ولسانه غُفر له" رواه أحمد. 

9- تذكر الموقف والمحشر يوم القيامة: ولذلك بدأ الله سورة الحج بقوله: (يا أيها الناس اتقوا ربّكم ّإنّ زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كْلُّ مرضعةٍ عمّا أرضعت وتضع كلُّ ذات حمل حملها وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى ولكنَّ عذاب الله شديد} [الحج:1ـ2]. وختم الله آيات الحج الواردة في سورة البقرة بقوله :(واتقوا الله واعلموا أنّكم إليه تحشرون} [البقرة: 203]. 

10- التأمل بمعالم الإسلام الخالدة وما ترتبط به من ذكريات مجيدة وما تفيض به من دروس وعبر لكل ذي لُبِّ ونظر. فعند البيت العتيق وزمزم والصفا والمروة.. يتجلى في خاطر المؤمن إبراهيم (عليه السلام)، الذي أسكن زوجته هاجر وطفله الوحيد ـ آنذاك ـ إسماعيل (عليه السلام)، في مكان قاحل.. لا حياة فيه ولا أحياء.. فتولى الله الطفل وأمه التي أطاعت زوجها وتوكّلت على ربّها.. ففجر لهما ماء زمزم من قلب الصحراء.. فتحوّل ذلك المكان القاحل إلى واحةٍ مباركة، تهوي إليها أفئدة الناس من كل مكان إلى يومنا هذا.. 

وفي مِنى يتذكر المؤمن تلبية إبراهيم ( عليه السلام ) لأمر ربّ العالمين، بذبح ولده الفتى إسماعيل (عليه السلام)، فلما استسلما لأمر الله صابرَيْن، أهداهما الله ذبحاً عظيماً فداء وتكريماً.

وفي كل بقعة من تلك الأرض المباركة، يتذكر المؤمن حبيبه محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يطوف حول الكعبة عابداً، ويتردد في أرجاء مكة داعياً ومجاهداً بصبر ويقين وعزم لا يلين، ويتذكر آله الأطهار وصحبه الأخيار ومواقفهم النبيلة إلى جانب رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) وتضحياتهم الجسيمة بالنفس والمال والوطن في سبيل الله. 

وعند العقبة في منى يتذكر المؤمن أفواج الأنصار الأبرار الذين بايعوا رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) على الإسلام والطاعة ونصرة الدعوة وحماية الرسالة بكل غالٍ ونفيس. فيتردد في خاطره بقوة قول الحق تعالى: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} [الأنفال: 63]. 

يُتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين