فرنسا والشرق العربي للطباخ - فرنسا والشرق العربي
بمناسبة ذكرى عيد الجلاء
فرنسا والشرق العربي
بقلم المؤرخ الأستاذ محمد راغب الطباخ
أطماع الغرب في الشرق ليس شيئاً مُستحدثاً، بل يرجع إلى ما قبل قرون عديدة وخصوصاً دولة فرنسا فإنها أكثرهم طمعاً وأعظمهم جشعاً، وقد غزت الشرق العربي عدة مرات وعادت مدحورة خاسرة.
ونذكر هنا حملتين لها على مصر كان نصيبها فيهما الفشل والخيبة لسوء إدارتها وضعف سياستها واستنزافها الأموال بأي طريقة كانت، والثالثة حملتها على سوريا وخروجها منها.
الحملة الأولى:
كانت الحملة الأولى في سنة (647هـ)سبع وأربعين وستمائة هجري، قال أبو الفداء في هذه السنة سار ( ريد افرانس) وهو من أعظم ملوك الفرنج، وريد بلغتهم هو الملك، أي ملك فرنسا، وكان جمع نحو خمسين ألف مقاتل، وشتى في جزيرة قبرس ، ثم سار ووصل في هذه السنة إلى دمياط، وكان قد شحنها الملك الصالح بآلات عظيمة وذخائر وافرة، وجعل فيها بني كنانة وهم مشهورون بالشجاعة.
وكان قد أرسل الملك الصالح فخر الدين بن الشيخ بجماعة كثيرة من العسكر ليكونوا قبالة الفرنج بظاهر دمياط.
ولما وصلت الفرنج عبر فخر الدين بن الشيخ من البر الغربي إلى البر الشرقي، ووصل الفرنج إلى البر الغربي فتملكها الفرنج من غير قتال واستولوا على ما بها من الذخائر والسلاح، وكان هذا من أعظم المصائب، وعظم ذلك على الملك الصالح، وأمر بشنق بني كنانة فشنقوا عن آخرهم، ووصل الملك الصالح إلى المنصورة، ونزل بها لخمس بقين من صفر من هذه السنة وقد اشتد مرضه.
وبعد أن ذكر خبر موته في شعبان قال: وتقدم الفرنج عن دمياط إلى المنصورة، وجرى بينهم وبين المسلمين في مستهل رمضان وقعة عظيمة استشهد فيها جماعة من كبار المسلمين، ونزلت الفرنج بحر مساح، ثم قربوا من المسلمين.
ثم إن الفرنج كبسوا المسلمين على المنصورة لخمس بقين من ذي القعدة، وكان فخر الدين يوسف بن الشيخ صدر الدين بن حموية في الحمام بالمنصورة، فركب مسرعاً وصادفه جماعة من الفرنج فقتلوه، ثم حملت المسلمون والترك البحرية على الفرنج فردوهم على أعقابهم واستمرت بهم الهزيمة.
ثم إن الملك المعظم تورانشاه، سار من حصن كيفار ووصل إلى دمشق في رمضان، ثم سار إلى المنصورة فوصلها لخمس بقين من ذي القعدة من هذه السنة.
ثم اشتد القتال بين المسلمين والفرنجة براً وبحراً، ووقعت مراكب المسلمين على الفرنج وأخذوا منهم اثنين وثلاثين مركباً منها تسع شواني فضعف الفرنج لذلك وأرسلوا يطلبون القدس وبعض الساحل، وأن يسلموا دمياط إلى المسلمين فلم تقع الإجابة إلى ذلك.
ولما أقام الفرنج قبالة المسلمين بالمنصورة فنيت أزوادهم، وانقطع عنهم المدد من دمياط فإن المسلمين قطعوا الطريق الواصل من دمياط إليهم، فلم يبق لهم صبر على المقام فرحلوا في المحرم متوجِّهين إلى دمياط، وركب المسلمون أكتافهم.
ثم خالطهم المسلمون وبذلوا فيهم السيف فلم يسلم منهم إلا القليل، وبلغت عدة القتلى من الفرنج ثلاثين ألفاً على ما قيل، وانحاز(ريد افرانس) ومن معه من الملوك إلى بلد هناك، وطلبوا الأمان، فأمَّنهم الطواشي محسن الصالحي، ثم احتيط عليهم وأحضروا إلى المنصورة وقد (ريد افرانس) وجعل في الدار التي كان ينزلها كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان، ووكل ابن الطواشي صبيح المعظمي، ولما جرى ذلك رحل الملك المعظم بالعساكر من المنصورة ونزل بفارسكور ونصب بها برج خشب للملك المعظم.
ثم وقع الحديث مع (ريد افرانس) في تسليم دمياط  بالإفراج عنه فتقدم (ريد افرانس) إلى من بها من نوابه في تسليمها فسلّموها وصعد إليها العلم السلطاني يوم الجمعة لثلاث مضين من صفر من سنة ثمان وأربعين وستمائة، وأطلق ( ريدا فرانس) فركب في البحر بمن سلم معه، وأقلعوا إلى عكا، ووردت البشرى بهذا الفتح العظيم إلى سائر الأقطار. وفي ( ريد افرانس) يقول جمال الدين يحيى بن مطروح أبياتاً منها:
قل للفرنسيس إذا جـــئـتــهُ                 مقال صــدق عن فؤاد نصيحْ
أتيت مصراً تبتغي ملــكها                   تحسب أن الزمر يا طبلُ ريح
وكلُّ أصحابك أوردتـهــــم                      بحـسن تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفاً لا يرى منهـمُ                   غـيـرَ قـتيل أو أسير أو جريح
وقل لهم إن أضمروا عودة                     لأخذ ثــأر أو لقــصد صــحيح
دار ابن لقمان على حــالها                   والقيد بــاقٍ والطواشي صبيح
محمد راغب الطباخ
مجلة الجامعة الإسلامية، الأعداد
(253ـ256)السنة التاسعة عشر
(1366ـ1947)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين