أثرُ العربِ في حضارةِ الغَرْب

 

إنَّ هناك حقيقة يحاول الفكر الغربي أن يُنكرها أو يتجاهلها أو يُقلِّل من قَدْرِها، وهي حقيقة هامَّة لأنَّها ذات أثر نفسي بالغ، فضلاً عن أثرها التاريخي البارز، تلك هي أنَّ المسلمين هم الذين وضعوا المنهج العلمي التجريبي الذي تقوم عليه الحضارة الحديثة، وأنَّ المسلمين لم يَقْبلوا المنهج النظري اليوناني؛ لأنَّه كان منهج حضارة عبودية يختلف عن مفاهيمهم وقيمهم، ولذلك فقد تحرَّكوا من خلال القرآن إلى إنشاء منهج جديد هو المنهج التجريبي، وقد شهد بذلك (بريفولت) و(درابر) و(بيكون) وغيرهم من كبار أعلام الفكر الغربي.

وأعلن أكثر من باحث أنَّ المسلمين سبقوا - في مُعْطيات كثيرة - مفكري الغرب، سواءً في مجال الاجتماع أو الاقتصاد، أو التطور أو السياسة، سبق ابن خلدون كلا من (سميث) و(هيجل)، كما سبق المعري (دانتي)، وسبق ابن مسکویه (دارون)، وسبق الطرطوشي ميكافيلي كلٌ في فكرته ومیدانه، ولقد ظلَّ الغرب يُنكر أثر المسلمين في حضارة الغرب أكثر من ثلاثمائة سنة حتى جاء من كَشفَ عن أثر العرب في كل العلوم التجريبيَّة والكيمائيَّة والطبيعيَّة، فضلاً عن الطب والفلك، ولم يجد الغربيون أمامهم بُداً من الاعتراف بعد أن قال عالمهم الكبير: أنَّ ابنَ الهيثم من أعظمِ علماء البشريَّة على الإطلاق واعترف نابغهم أنَّ ابنَ خلدون أول من وضع أسس الاجتماع وفلسفة التاريخ.

الكاتب الصادق ومصدر قوته:

إنَّما أوتينا من قبل الكتب اللامعة والأسماء البرَّاقة، فلنكن على حذرٍ منهما، إنَّ نصاعة تاريخ الكاتب وصدق انتمائه إلى أمَّتِه وفكرها هو مِفتاح الثقة به، لنكن على إيمان كامل بأنَّ الكاتب الصادق يستمدُّ قوته من الحق ويستمدُّ مظهره من تراث الأنبياء والأئمة الأبرار، ويكون في دعوته وهدفه وكتاباته مُطابقاً لتوجيه القرآن الكريم ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ﴾ [آل عمران: 187].

ولا يَشترون به ثمناً قليلاً، وهو لا يحبُّ أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ولا يكون أبداً أداة لتزييف الحق، أو تضليل الناس، أو إعلاء شأنِ الأهواء، أو خداع القارئ بالعناوين البرَّاقة والكلمات اللامعة: كالفكر الحر، والانطلاق، ونسبية الأخلاق، وحتميَّة التطور! 

وأول علامات الصِّحَّة في حكمنا: أن نحاكم الفكر نفسه بالإخلاص والإيمان وأنَّ الكُتَّاب القدورين لدينا، الأثيرين عنا، لنأخذ منهم ونتلقى عنهم: هم الذين عُرِفوا بنصاعة الصفحة، وسلامة الفطرة، والولاء للخير، خير هذه الأمَّة وفكرها وقيمها الأساسيَّة.

إنَّ من أكبر الخطأ: قول القائل (قلبٌ عربي، وعقل أوروبي) ذلك أنَّنا في الحقِّ نؤمن بقلب عربي إسلامي وعقل عربي إسلامي أيضاً، لا تفرقة بين العقل والقلب، ولا سبيل لأن يسير أحدهما في نهج مخالفٍ للآخر، ولابدَّ أن ينسجما معاً في طريق: هو طريق التوحيد والإيمان والأخلاق على النحو الذي رسمه القرآن الكريم وقام عليه الإسلام.

فإن كان المقصود بالعقل الأوروبي: علوم الغرب الحديثة فإننا حين نأخذها إنما نأخذها بالعقل العربي الإسلامي ومن خلال دائرة فكرِنا الأصيل ذي الجذور العميقة التي لا تتحوَّل أمام أيِّ ظاهرة مُستحدثة لتخرج به عن مقوِّماته، والذي شارك قديماً في صناعة العلم، وأنشأ المنهج العلمي التجريبي.

إنَّنا في الحقِّ لا نحتاج من الغرب إلا للعلم، وهو نتاج شاركْنَا فيه وكان لنا دور عميق في إنشائه وبنائه ولا نأخذه إلا بمفاهيمنا الجامعة بين الإيمان بالعلم طريقاً إلى الخير والحق والعدل وخالصاً لله تعالی.

أما القلب العربي فلن يكون قلبنا حقيقة إلا إذا كان إسلامياً وعربياً معاً، فيه المروءة العربية تحرك في ضوء الخلق الإسلامي ودوافعه ومَرَاميه.

تحديات ثلاثة خطيرة واجهت المسلمين في العصر الحديث:

(أولاً) التحدي المنبعث من واقع المسلمين الفكري، وقد بدأت أول صيحة في حركة اليقظة الإسلاميَّة المعاصرة.

(ثانياً) التحدي المنبعث من داخل المجتمع الإسلامي نتيجة الاحتلال ويتمثَّل في الشعوبيَّة ونفوذ التبشير ومدارس الإرساليات ومناهج التربية والتعليم التي أخرجت الإسلام من العقل والقلب المسلم وفتحت أمامه طريقاً واسعاً لتقبُّل كل الأوهام والأهواء.

(ثالثاً) التحدي الخارجي ويتمثَّل في التغريب ومَناهجه ودعوتِه ومن ورائه الاستشراق ليملأ الفراغ الذي تركته مخططات الاستعمار في تفريغ التربية والتعليم في العالم الإسلامي، وقد تظاهرت الحركتان الاستشراقية والتبشيرية على هذا العمل.

التشاؤم طابع غربی:

إنَّ طابع التشاؤم الذي يسود الأدبَ الحديث هو طابع غربي محضٌ، وهو دخيلٌ على الأدب العربي والفكر الإسلامي، ويرجع التشاؤم في الفكر الغربي والأدب الغربي إلى عدم الاقتناع العقلي بوراثة البشر جميعاً لما يُطلق عليه اسم الخطيئة الأصليَّة، لقد ساد الوجدان المتشائم في الغرب نتيجة لهذه القضيَّة، وظهرت آثاره القويَّة على الآداب والفنون والفلسفة والأخلاق.

وفي ظلِّ هذا الاتجاه السوداوي المتشائم ينتشر على أوسع نطاق في عالم الغرب أفكار عن (لا معقوليَّة الحياة) و(عبث الوجود)، حتى أصبح المفكرون المتشائمون يشنُّون هجماتٍ هستيريَّةً على كل فكرٍ مُعارض.

ويرى الباحثون اليوم أنَّ (الوجوديَّة) هي أعلى أطوار فلسفة التشاؤم ويردُّ البعض ذلك إلى الماكينة التي انقلبت على صانعها الإنسان، وأصبحت وَحْشاً مُدمِّراً يحاول أن يقضي على عقله وقلبه ويُحيله إلى أداة طيِّعة له.

يقول (باسبرز): إنَّ التقدم العلمي الذي يُعدُّ صعوداً بالنسبة للبشريَّة من حيث هي بشريَّة هو هبوط وانتكاس لأخلاقيَّات الإنسان.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: (كتاب أحاديث إلى الشباب عن العقيدة والنفس والحياة في ضوء الإسلام) ص: 156-163

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين