البوطي من معركة الدّستور إلى مجزرة المدفعيّة

وهو المقال الخامس من سلسلة "البوطي؛ شخصيّتُه وأفكارُه ومواقفه"

• أحداث الدّستور عام 1973م

عمل حافظ الأسد بعد استيلائه تمامًا على الحكم على وضع دستور لسوريا، وقد أرسل مسودة الدستور إلى البرلمان ليتفاجأ الجميع بخلوّها من أيّة إشارة إلى دين رئيس الدّولة، وكذلك خلوّها من أيّة إشارة إلى أنّ الفقه الإسلامي مصدرٌ أساسيّ في التشريع، وهاتان النقطتان كان يتضمّنهما الدّستور السابق.

ثار العلماء في دمشق وحماة رفضًا لهذا التغييب للمادّتين؛ أمّا في حماة فكانت ثورتهم على شكل مظاهراتٍ احتجاجيّة قادها علماء جماعة الإخوان المسلمين واعتقل في تلكم المظاهرات الشّيخ سعيد حوّى ومروان حديد الذي انشقّ عن الإخوان ليشكّل "الطّليعة المقاتلة"

أمّا الاحتجاج في دمشق فكان عبر عقد اجتماعاتٍ مكثّفة للعلماء وإصدار بيانات احتجاجيّة رافضة لهذا الدّستور، وتفعيل الخطاب المنبريّ لبيان الموقف من هذا الدستور، وكان ممن قاد حملةً واسعةً منبريّةً ومجتمعيّةً رافضةً لهذا الدّستور الشّيخ حسن حبنّكة الميداني أستاذ الدّكتور البوطي وشيخه في طفولته وشبابه.

وكان الدّكتور البوطي في ذلك الوقت مدرّسًا في كليّة الشريعة بجامعة دمشق، وكان يحضرُ اجتماعات العلماء لمناقشة قضيّة الدّستور.

وقد حدّثني بعضُ علماء دمشق الذين كانوا يحضرون مجلس المناقشة أنّ موقف الدّكتور البوطي كان متقدّمًا جدًّا في رفضه لهذا الدّستور.

وعهد إليه العلماء بصياغة مسوّدة البيان الرّافض للدستور والذي وقّع عليه كثيرٌ من علماء دمشق حينها، فكان يرفع السَّقف عاليًا في لهجته الرّافضة، وكان صارمًا وحادًّا في رفض أيّ تنازل عن هاتين المادتين، وكانت لغته عالية السّقف حتّى كان عامّة الحاضرين يحاولون التّهدئة من حدّته وغضب لهجته مع إصرارهم على الموقف نفسه.

وفعلًا رضخ حافظ الأسد لهذا الحراك الاحتجاجيّ الذي قاده العلماء في دمشق وحماة وأضاف المادة الثّالثة للدستور ونصّها:

" المادّة الثّالثة: دين رئيس الدّولة الإسلام، الفقه الإسلاميّ مصدرٌ رئيسيٌّ للتّشريع"

ولكن يمكن القول: إنَّ التفافًا ماكرًا حدث على هذه المادة وإفراغًا تامًا لها من مضمونها من خلال تمرير حافظ الأسد المادّة الثّامنة في الدّستور، ونصّها:

"المادة الثامنة: حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية"

من الملاحظ في هذه الأحداث وتفاعل الدّكتور البوطي معها أمران: 

الأوّل: كان موقف العلماء والدّعاة موقفًا متقدّمًا ورياديًا حيثُ وقّع غالب علماء وخطباء دمشق على البيان الذي اتّفق رموز الجماعات الدّعويّة عليه وصاغه الدّكتور البوطي بتكليفٍ منهم ورغبةٍ واندفاع كبيرٍ منه.

وهذا الموقف المتماسك هو الذي أخضع حافظ الأسد وجعله يضيفُ المادّة الثّالثة من الدّستور التي أوقعَته في ورطة، إذ إنّ عامّة علماء المسلمين من السّنة والشيعة على حدٍّ سواء يعدّون الطائفة العلويّة النصيريّة التي ينتمي لها حافظ الأسد طائفةً غير مسلمة ولا صلةَ لها بدين الإسلام بأيّ شكلٍ من الأشكال.

اضطرّ حافظ الأسد للخروج من هذا المأزق أن يلجأ إلى صديقه المقرّب المرجع الشّيعي الإمام موسى الصّدر ليصدرَ في تموز "يوليو" عام 1973م فتوى تنصّ على اعتبار العلويّين النّصيريين في سوريا ولبنان فرقةً من فرق الشّيعة الجعفريّة الإماميّة الاثني عشريّة.

الثّاني: لم يتعامل الدّكتور البوطي مع هذه القضيّة بوصفها قضيّة سياسيّة، بل هي قضيّة متعلّقة بهويّة الدولة ودينها وعقيدتها ومسألةٌ إيمانيّة اعتقاديّة، وكذلك تعامل سائرُ العلماء والدّعاة في دمشق مع هذا الأمر.

وهذا يفسّر الغضبة الشديدة والموقف الحادّ والصّارم للدّكتور البوطي من المسألة، فما قام به حافظ الأسد هو انتهاكٌ صارخٌ للعقيدة في نظره يوجب الإنكار والتّصويب.

• حادثة مدرسة المدفعيّة في حلب

في يوم 16 حزيران "يونيو" من عام 1979م، قام ضابط التّوجيه المعنوي والسّياسي في مدرسة المدفعيّة الواقعة في منطقة الرّاموسة قرب مدينة حلب النقيب إبراهيم اليوسف، وهو سنيّ من بلدة تادف في ريف حلب، و كان الضابط المناوب في ذلك اليوم؛ بتوجيه أمرٍ إلى التلاميذ الضبّاط بالاجتماع في قاعة الطَّعام التي تُعرف في الجيش السوري باسم "النّدوة"، وعند اكتمال العدد فرز العساكر العلويين النّصيريين عن بقيّة العساكر، ثمّ قام بمساعدة مجموعة من "الطليعة المقاتلة" بقيادة عدنان عقلة قدِمَت من خارج المعسكر بإطلاق النّار عليهم فقتل معظمهم، وعدد القتلى حسب مصادر النّظام 32 قتيلًا ويصل في بعض روايات النّظام إلى 82 قتيلًا، بينما توصلهم مصادر "الطليعة المقاتلة" إلى 250 قتيلًاـ وقد عرفت هذه الحادثة في الأوساط المختلفة باسم "مجزرة مدرسة المدفعيّة"

بعد هذه الحادثة ظهر الدّكتور البوطي على التلفزيون السوري بدعوة من وزارة الإعلام ليبيّن الموقف الشّرعي من هذه الحادثة التي كانت نقطة تحوّل في مسار الأحداث في سوريا عقب ذلك.

ويتحدّث الدّكتور البوطي عن ظهوره هذا في كتابه "هذا والدي" فيقول:

"ولمّا وقعت مجزرة المدفعيّة بحلب، واتّصل بي مسؤولون من وزارة الإعلام، يرغبون إليّ أن أعلن عن حكم الشّريعة الإسلاميّة في ذلك، استشرت أبي فيما طُلب إليّ؛ فأمرني بالاستجابة، ووجّهني إلى الحكم الشّرعي الذي يجب أن أقوله بدون مواربةٍ ولا حذر، فاستجبتُ وتحدَّثتُ حديثًا تلفزيونيًّا مفصَّلًا عن حرمة هذا العمل الذي تمّ الإقدام عليه، وأنّه لا يدخل في أيّ نوعٍ من أنواع القتل المشروع، فلا هو داخل في قتل المرتدّ لأنّ الرّدّة لم تتحقّق ولم تقم عليها أيّ بيّنة، ولا هو داخلٌ في القتل قصاصًا إذ لم تثبت على المقتولين أيّ مسؤوليّةٌ جرميّة، ولا هو داخلٌ في القتل بسبب الصّيال أو الحرابة، لأنّهم لم يكونوا صائلين ولا محاربين، والحقيقة أنّ كلّ الذي قلته حينئذٍ كان بتوجيهٍ وإيعازٍ من والدي"

وهذا الموقف من الدّكتور البوطي لا يمكن اعتباره تأييدًا صريحًا لنظام الأسد حينها، فقد تباينت ردود الأفعال حول المجزرة حتّى من المعارضين للأسد أنفسهم.

فقد وجّه نظام الأسد الاتّهام إلى جماعة الإخوان المسلمين بالمجزرة في بيان أصدره وزير الدّاخليّة عدنان الدّبّاغ بعد نحو أسبوع من الحادثة وتحديدًا يوم 22 حزيران "يونيو" جاء فيه: 

" وكانت آخر جريمةٍ لهم تلك التي حدثت في مدرسة المدفعيّة في حلب، لقد تمكّنوا من شراء عنصرٍ من عناصر القوّات المسلّحة هو النّقيب إبراهيم يوسف من مواليد تادف واستخدموا وجوده في المدرسة ونفوذَه في يوم ٍكان فيه هو الضّابط المناوب في المدرسة.

واستطاع مساءَ يوم السّبت الواقع في السّادس عشر من هذا الشّهر أن يُدخل إلى المدرسة عددًا من المجرمين من جماعة الإخوان المسلمين ويدعو الطّلاب الضبّاط إلى اجتماع عاجلٍ يعقد في النّدوة وعندما هرعوا من مهاجعهم تنفيذًا لأمره وأصبحوا في قاعة النّدوة الطّلابية أمر أعوانه من المجرمين الذينَ أدخلَهم من خارج المدرسة بفتح النّار على الطّلاب الشباب العزل في القاعة المغلقة وذلك بالرشاشات والقنابل اليدوية وسقط خلال دقائق معدودات اثنان وثلاثون شهيدًا وأربعة وخمسون جريحًا"

لكنّ جماعة الإخوان المسلمين سارعت إلى نفي ذلك عبر بيان رسميّ جاء فيه:

"إنّ الإخوان المسلمين فوجئوا كما فوجئ غيرهم بالحملة التي شنّها عليهم عدنان دبّاغ وزير الدّاخلية السوري متهمًا إيّاهم بالعمالة والخيانة وغير ذلك، ومحملًا إيّاهم مسؤوليّة أمور هو أكثر الناس دراية أنهم برآء منها، لقد حمّلهم مسؤوليّة المذبحة التي حدثت في مدرسة المدفعيّة كما حمّلهم مسؤوليّة الاغتيالات التي جرت ولا زالت تجري في سوريا"

ثمّ بيّنوا رفضهم لهذه الحادثة في البيان نفسه حيث قالوا:

"إنّ الإخوان المسلمين يتحدّون أن تثبت أيّ جهة في العالم عن طريق تحقيق نزيه أن تكون قيادتهم أو عناصرهم قد سارت في طريق العنف علمًا بأنّ الحكم السّوري قد أوجد له كثيرًا من الخصوم الذين يؤمنون باستخدام العنف.

وما يزال الإخوان المسلمون مستمرين بهذا النّفي والرّفض للحادثة إلى يومنا هذا.

ثم إنّ إنكار الدّكتور البوطي لهذه الحادثة ينسجم مع رؤيته الفقهيّة القائمة على حرمة استهداف جنود وأعوان الظّلمة، فبالإضافة إلى ما بيّنه في كتابه "هذا والدي" من تأصيله الرّافض للحادثة؛ فإنّه يبيّن موقفه هذا أيضًا في كتابه "الجهاد في الإسلام؛ كيف نفهمه وكيف نمارسه" إذ يقول:

"غيرَ أنّ عمل هؤلاء النّاس اليوم لا يقتصر على الخروج بالتّرصّد القتاليّ على القادة والحكّام الذين ينعتونهم بالكفر والرّدة لأنّهم لا يحكمون بما أنزل الله وإنّما يمتدّ إلى ملاحقة الموظفين الذين تحت أيديهم من شرطة وجنود وعمّال ومستخدمين.

وهم ينطلقون إلى هذا من فتوى يفتون بها أنفسهم، وهي أنّ هؤلاء الجنود والعمّال والموظفين أعوانٌ للظّلمة أي الحكّام، فيجري في حقّهم من الأحكام ما يجري في حقّ رؤسائهم الذين يستخدمونهم ويستعينون بهم!"

ثمّ يقول بعد ذلك بمواضع: "والخطأ يكمن في حكمهم على القادة والحكّام بالكفر والخروج عن الملّة، ثمّ يكمن في عدّهم الموظّفين والعسكر والشّرطة والمستخدمين أعوانًا للظّلمة أي الكافرين! ثمّ يكمن في عدّ هؤلاء الأعوان ـ على فرض أنّهم أعوانٌ للظلمة فعلًا ـ مرتدّين كسادتهم يجوز الخروج عليهم بالقتل والتّشريد"

فموقف الدّكتور البوطي من مجزرة مدرسة المدفعيّة لا يعدّ موقفًا ممالئًا للسلطة، فلم يكن الوحيد من العلماء والدّعاة الذين ظهروا حينها معلنين موقفهم الرّافض لهذه الحادثة، وقد رفضها أيضًا أشدّ خصوم حافظ الأسد وهم جماعة الإخوان المسلمين.

كما أنّ موقف الدّكتور البوطي هذا لا يعدّ لحظة دخوله في عباءة حافظ الأسد، لكنّ هذا الظّهور على تلفزيون النّظام كان فاتحةَ العلاقة التي تطوّرت فيما بعد وشهدت نقطة تحوّل حقيقيّة بعد سنتين تقريبًا من هذا التّاريخ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين