إعدام التاريخ

لا يخفى على دارسي التاريخ ما للوثائق والمخطوطات الأصلية من قيمة عالية، كونها تعتبر المصدر الوحيد الموثوق، بحسب نوعية الوثيقة، للوقوف على تواريخ الأمم، وتقلبات المجتمعات وتطورها عبر الحقب، وبخاصة بعد انتقال مجال التاريخ من ميدان الحروب، إلى ميدان الدراسات المنهجية، فهذه الدراسات المنهجية تحتاج إلى الوثائق لدراسة ما خلفته الشعوب والأمم من ميراث علمي.

من هنا تنبع أهمية الوثائق، ومن هنا كانت الخطورة في التخلص منها بدون وعي، وهو ما نراه يحدث خلال الصراعات المجنونة، ذلك أن إتلافها هو في الحقيقة إتلاف لذاكرة جمعية، ووقائع تاريخية واجتماعية، تنتظم سلك البشرية، مما يسبب انقطاعا في سلسلة التاريخ، ربما يتبرع من يملؤها باجتهاده، فتأتي هذه الاجتهادات بعيدة كل البعد عن المنطق التاريخي.

مكتبة دار العلم في طرابلس

في زمن حكم بني عمار لطرابلس الشام، أسس جلال الدولة أبو الحسن علي بن محمد فيها مكتبة ضخمة أطلق عليها (دار العلم)، وبها اشتهرت طرابلس بأنها دار العلم والعلماء، وذلك حوالي سنة (1069م)، وبحسب الدراسات كانت هذه المكتبة ضخمة جدا، وكانت تضم حوالي ثلاثة ملايين مخطوط موزعة على موضوعات العلوم، لكل موضوع غرفته الخاصة، وكانت في غاية التنظيم والترتيب والشمولية، حتى وصفها (ستيفن رانسيمان) في كتابه (تاريخ الحملات الصليبية ج 2 ص 113) بأنها (أروع مكتبة في العالم). 

إلا أن هذا الإرث الذي وصف (بالأروع في العالم) أصبح أثرا بعد عين يوم دخلت جحافل الفرنجة طرابلس سنة 1109م، وهكذا خسر العالم أروع مكتباته بسبب الأحقاد التي تشعل حروبا غير واعية تحرق الأخضر واليابس. 

وحتى اليوم لم نهتد إلى الموضع التي كانت فيه هذه المكتبة العظيمة. 

سجلات محكمة طرابلس الشرعية:

في كتابه (سجلات المحكمة الشرعية "الحقبة العثمانية" – المنهج والمصطلح) الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يجمع لنا الدكتور خالد زيادة أعمالًا أعدّها خلال اشتغاله على وثائق محكمة طرابلس الشرعية، والتي يبتدئ تاريخها في عام 1077هـ/ 1666م. 

ذلك أن وثائق المحاكم الشرعية تحتل موقعًا متميزًا بين مجموعات الوثائق التي يمكن أن يستند إليها المشتغلون بالتاريخ في الحقبة العثمانية: كالوثائق القنصلية ، والتجارية، والكنسية ، وغيرها، مع تميز وثائق المحاكم الشرعية باتساع موضوعاتها لتشمل جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فضلًا عن حفظها ما كان يرد من عاصمة الدولة العثمانية من فرمانات ومراسلات.

وأثناء الكلام عن هذه الوثائق يمكننا التنبه بشكل واضح إلى ما تعرضت له هذه السجلات من تلف سببته الحروب المتعاقبة في لبنان، مما خلف فراغا في المساق التاريخي لحركة المجتمع الطرابلسي، ولولا أن الله تعالى لطف بإنقاذ ما تبقى من سجلات، وهي التي تكلم عنها في الكتاب سعادة الدكتور خالد زيادة ، وغيره من الباحثين، لضاع جزء كبير من تاريخ المنطقة. 

الأرشيف العثماني في بلغاريا

أثناء جلاء القوات العثمانية عن بلغاريا بين سنتي ١٨٧٧ – ١٨٧٨ خلَّفت وراءها جزءا من أرشيفها. غير أن المفاجأة الكبرى هي أن بلغاريا اشترت عام ١٩٣١ كمية كبيرة من الأوراق للتدوير من الحكومة التركية برئاسة عصمت إينونو يومها بأسعار زهيدة ليتبين فيما بعد أنها عبارة عن كميات ضخمة من الوثائق العثمانية، والتي تمثل مصدرا مهما للتاريخ العثماني: السياسي، والثقافي، والاقتصادي، والديني. والتي بلغت بالوزن الصافي (٥٠ ) خمسين طنا، وبالعدد مليون وخمسمئة ألف وثيقة تقريبا. ودفعت يومها بلغاريا (٣ قروش) ثمنا للكيلو الواحد.

فلما تبين أنها وثائق عدلت بلغاريا عن تدويرها، واحتفظت بها، فبات الأرشيف الروماني يمتلك كمية لا يستهان بها من الوثائق المهمة العائدة إلى التاريخ العثماني، وعلى الخصوص الجزء المتعلق بالأرمن تحديدا. وصفت بأنها أكبر مخزون للأرشيف العثماني خارج تركيا.

بعد ذلك تم بيع الجزء الأرمني منها إلى الفاتيكان بحسب أسبوعية La nouvelle observateur الفرنسية، وان الفاتيكان دفع فيها مبلغا وصل إلى ٤٠ مليون ليف بلغاري، بحسب خبر نشر عام ١٩٩٥م. في جريدة (تركييه كزيتاس)، كتبه الصحفي الاستقصائي نجدت أوزفوتاري.

الأرشيف العثماني في مصر

ومن هذا الباب ما نشره موقع بوابة الأهرام الإلكتروني هـــنا

في مقابلة مع الدكتور عبد الواحد النبوي، رئيس دار الوثائق المصرية الأسبق، بتاريخ 28 / 10 / 2013 ، حيث صرح بأن جهات وأجهزة حكومية ودواوين محافظات ووزارات (بعد الثورة) تقوم بالتخلص من أطنان من مستنداتها ووثائقها ، التي قد تضم وثائق تاريخية ، بالإعدام أو البيع دون الرجوع للدار، التي هي الجهة الوحيدة المخولة قانونًا بإبداء الرأي في التصرف في أي وثيقة رسمية خاصة بالدولة. 

وكشف عن أن الدار تفاجأ بهذه الأوراق تباع في سوق (الروبابيكيا) - يعني سوق الخرضوات - أو بدول الخليج والدول الأوروبية وأمريكا.

ويعد الأرشيف المصري، أحد أهم خمس أرشيفات على مستوى العالم فيما يتعلق بالعصر العثماني، وتتراوح أهميته داخل تلك الفترة ليصل أحيانًا بين أول ثلاثة أرشيفات. وتبلغ الوثائق المحفوظة في الدار الوثائق المصرية حوالي مئة مليون وثيقة.

هذا كله يبين لنا حجم الجرائم التي ترتكب بحق التاريخ من خلال التعرض للوثائق بالتلف أو بالبيع بطريقة عشوائية، الأمر الذي يوجب على المهتمين التداعي إلى الحفاظ على الإرث الثقافي العالمي المتمثل بالمخطوطات والوثائق المعرضة للتلف بسبب الحروب والجهل.. 

إنه فعلا إعدام للتاريخ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين