ألا بذكر الله تطمئن القلوب

للأستاذ عبد الوهاب خلاف


مقالة كتبها العلامة الفقيه عبد الوهاب خلاف ( بمجلة كنوز الفرقان عدد 3، 4 بتاريخ الربيعين 1369 هـ / يناير وديسمبر 1950م ) ليتحدث فيه عن ذكر الله وأثره في إضفاء الطمأنينة على النفس عند الأزمات وراحة باله واستقرار خواطره:


ألا بذكر الله تطمئن القلوب


سعادة الإنسان في هذه الحياة في اطمئنان قلبه، وراحة باله، واستقرار خواطره، وقد أرشد الله عباده في كلمة موجزة حكيمة إلى الوسيلة التي تحقق لهم هذه السعادة وتقيهم من عذاب القلق والاضطراب، وآلام الجزع والهلع، وشقاء الشك والارتياب، فقال جل ثناؤه، وهو أصدق القائلين: { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد: 28 ].
وذكر الله الذي تطمئن به القلوب، ليس هو مجرد ترديد اللسان لاسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، وإنما هو تذكير ألوهيته وعظمته، واستشعار رأفته ورحمته، وقهره وعزته، واستحضار حكمته في سننه، وعدالته في قضائه.
* * *
فمن رَاضَ نفسه على أن يتذكر ربه في جميع حالاته: في سرائه وضرائه، وفي شدته ورضائه، وفي صحته وسقمه، وفي طاعته ومعصيته، أسند كل أمر إلى مصدره واطمأن إلى حكمة الله فيما نزل به، فَسَكن قلبه، واستراح من الهم والحزن على ما فاته، ومن الزَّهو والبطر بما جاءه، وأمِن متاعب القلق والاضطراب.
- فإذا ابْتُلي بفقد عزيز عليه، أو بكارثة نزلت به، وتذكر ربه وأن كل ما كان وما يكون، إنما هو مقتضى إرادته ونفاذ لحكمه، وإنه لا رادَّ لما أراده، ولا مُعقب لحكمه، واطمأن قلبه، وسكن إلى ما قضى به ربه، وسلم واستسلم، ولم يجد في صدره حرجا مما أراد الله، ولا اعتراضًا على ما حكم به الله ؛ وفي هذا الاطمئان عزاء وسلوان، ورضا وراحة بال. قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد: 22 ].
- وإذا خسر التاجر في تجارته، أو خاب العامل في سعيه، أو رسب الطالب في امتحانه، أو فات الإنسان أي خير كان يرجوه، وتذكَّر ربه، وأنه لن يصيب أحدًا إلا ما كتبه الله له، وإن يرده بخير فلا رادَّ لفضله، اطمأنَّ قلبه إلى أن ما فاته لم يكن له، وإلى أنه لو كان له ما فاته، وفي هذا راحة من الاسترسال في الهم والحزن ووقاية من السخط واليأس، قال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ } [ فاطر: 2 ].
- وإذا أوتى الإنسان نعمة وزاده الله بسطة في الرزق والعلم، أو العافية أو الثراء أو الجاه، وتذكَّر ربه، وأن هذا الذي ينعم فيه – إنما هو من فضل الله عليه، وإحسانه إليه – اطمأن قلبه إلى رحمة الله وكرمه، وانطلق لسانه بحمده وشكره، وشكر النعمة يزيد المنعم كرما وإحسانًا. قال تعالى: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم: 7 ].
- وإذا وفق الإنسان إلى طاعة ربه والعمل بما يُرضيه، وتقرَّب إليه وتذكر ربه، وأنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأنه إنما يجزى العامل على نيته، وأنه ينظر إلى القلوب والسرائر، لا إلى الصور والظواهر، أخلص في عمله ؛ وَوَجَّه وَجْهَهُ لمن يهديه ويجزيه. قال صلى الله عليه وسلم: (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )).
- وإذا وقع الإنسان في خطيئة أو اقترف إثما وتذكَّر ربه، وأنه غافر الذنب وقابل التوبة لم ييأس من رحمة الله، ووجد السبيل ممهدة للتوبة والإنابة، ورجاء العفو والمغفرة، قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ } [ آل عمران: 135 ].
* * *
فتذكر الله وصفاته وآيات رحمته وقدرته، يحيي الضمير، وتستيقظ حاسة الخير، وتسكن النفس إلى الحقائق، وبهذا يطمئن القلب وتهون الشدة، ويستحق الإنسان معونة ربه وتوفيقه.
روي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( يقول الله عز وجل: (( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني )). ومن هذا نتبين الحكمة في أن الله أعد المغفرة والأجر العظيم، للذاكرين الله كثيرًا والذاكرات. وعدّ أولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودًا وعلى جنوبهم. وعدَّ ذكر الله أكبر من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر. {َ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ العنكبوت: 45 ].
ونتبين الحكمة في أن الله سبحانه توعَّد الغافلين عن ذكره، ونهى عن طاعتهم واتباعهم، وأمر باجتنابهم والإعراض عنهم فقال عز شأنه: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف: 28 ] وقال سبحانه: { فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [ لنجم: 29 ]. وقال جل ثناؤه: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف: 36 ].
ذلك لأن الغافل عن ذكر ربه لا يستشعر آياته وصفاته في محنة ولا نعمة ولا في طاعة ولا معصية يشقى حتى في النعمة ويضل حتى في الطاعة.
فإن أصابته محنة لم يجد ملجأ ولا مفزعا وتضيق الدنيا في وجهه وتتراكم خواطر الشر والسوء في عقله، ويستولى عليه اليأس والقنوط، مصداق قول الله سبحانه: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } [ طـه: 124 ].
وإذا ناله خير استقبله بالأَشَر والبطر، والزهو والغرور ؛ وفي غفلة عن ذكر الله يستخدم نعم الله لمعصيته، ولهذا يعرض النعمة للزوال. وفي الأثر يقول: (( إذا رأيتم الله يعطى العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته، فإن ذلك منه استدراج، ثم تلا قوله تعالى: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [ الأنعام: 44 ] آي آسفون حزنون. وإذا وفق إلى طاعته اغتر بظاهر عمله، ونسي أن لن يدخل أحد الجنة بعمله، إلا أن يتغمده الله برحمته، ويتقبل عمله بقبول حسن وإذا وقع في معصية استمرأ العصيان وأصرَّ على ما فعل، وران على قلبه ما كسبه.
فمن أراد الله له الخير، وَفَّقه إلى أن يكون على ذكر بربه في كل حالاته، فيحيا ضميره، ويطمئن قلبه، وتستيقظ حاسة الخير فيه، ومن أراد الله به السوء أغفل قلبه عن ذكره، فاستسلم لهواجسه، واستحوذت عليه وساوسه وشكوكه، وكان أمره فُرطًا – أي بعيدًا عن الصواب، غير واقف عند الحدّ الذي حده ربه، { مَنْ يَهْدِ الله فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً } [ الكهف: 17 ].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين