ملامح سور القرآن سُورة البَقَرة

سورة البقرة -وهي أطول سورة في القرآن- مجاورة لسورة الفاتحة وهي من أقصر سور القرآن، وكلاهما جمع هدايات القرآن في أطول بيان، وأقصر بيان. ولقبت في الآثار بسنام القرآن، وفسطاط القرآن.

وقصة البقرة فيها تشير إلى الإيمان بالغيب، وهي تقول: أسلم نفسك وأطع ربك، بمعزل عن معرفتك بالحكمة، لأن التلكؤ يصعِّب الأمر عليك. وفي القصة أنه لم يقل لهم اذبحوها لتضربوا بها القتيل، بل قال: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)، ثم لما ذبحوها قال لهم: (اضربوه ببعضها)، لتحقيق غرضين: كشف قصةٍ آنيَّة، بمعرفة سر القتيل، وكشف قصة كونية بإراءتهم كيفية إحياء الموتى.

ولا بد لنا أن نتنبَّه إلى أن البقرة ليست من الأنعام التي ألفتها العرب، فهم يعرفون البقر الوحشي، وليس من دوابهم البقر الأهلي، وأن البقر ليس من الدواب التي تُركب، وأن هذه البقرة موصوفة بأوصاف عجيبة مثالية، فهي من قِبَل الحجم والعمر وسط، مع أنها في الأنعام شيء ضخم، وهي من قِبَل اللون براقة تسر الناظرين لا يشوب لونها شيء، وهي من قبل العمل عزيزة مُكرَّمة لم تذلَّل في أعمال الحرث والسقي، فهي إما أن يُشرَب لبنها وإما أن يؤكل لحمها. وكانت وظيفتها في بني إسرائيل كشف غيب، وإحياء ميت، وآية على إحياء الموتى. وقصتها تفردت بها هذه السورة. فإن لم تكن هذه أوصاف السورة نفسها فما تكون؟

وتقابل قصة إحياء القتيل ببعض البقرة في السورة خمس قصص أخرى في إحياء الموتى:

1- قصة إماتة بني إسرائيل وإحيائهم بعد قولهم لنبي الله موسى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة).

2- وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم، إذ لا مفر من الموت، ولكنه بيد الله، فإذا وجب القتال فليكن، لأن الأجل لا يقدمه القتال، ولا يؤخره الفرار.

3- وقصة الذي حاجَّ إبراهيم في ربه، وادعى أنه يحيي الموتى، وهو لا يملك تدبير أمر نفسه فضلا عن أن يدبر أمر الكون.

4- وقصة الذي مر على قرية وسأل عن كيفية إحيائها بعد موات، (فأماته الله مائة عام ثم بعثه)، وأراه الله عيانًا كيف يرجع الأموات إلى الحياة، في نفسه وفي حماره وفي طعامه.

5- وقصة إبراهيم لما سأل أيضًا: (رب أرني كيف تحيي الموتى)، ليطمئن قلبه، فأراه الله ذلك في أربعة من الطير. وأظن -والله أعلم- أن عددها إشارة إلى المشْرِقين والمغْرِبين، وهي الجهات الأربع، فالله يجمع الخلق في البعث من أقطار الأرض جميعها، ولذلك أمره أن يجعل على كل جبل منهن جزءًا، فهو ليس يحييها فحسب، ولكن يجمع أجزاءها المتفرقة لو تفرقت.

والسورة ذكرت كثيرًا من الأحكام وأشارت إلى اتصال كل ذلك بالغيب، ومنه شأن البعث بعد الموت، فامتثال الأحكام يجب أن يكون بمعزل عن الحِكَم، لأنه لا يحيط بها وبأقداره فيها إلا الله، ولن يبلغ الفكر الإنساني المحدود الضئيل مبلغ العلم الإلهي الذي أحاط بكل شيء علمًا، ولأن الجزاء الكامل على الامتثال وهو (التقوى)، أو على العصيان، إنما هو في الآخرة، الآتية يقينًا ببعث الموتى.

وأمهات الأحكام التي جاءت في السورة تتصل بالصلاة، والصيام، والقتال، والحج، والأسرة، والأموال.

ففي الصلاة جعل لهم قبلة ثم ولاهم عنها بحكمته، لأن له المشرق والمغرب، ولأنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وكشف لهم عن الحكمة في ذلك فقال: (وماجعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)، ولكنهم ما كانوا يعلمونها حين أمروا بالقبلة الأولى، ثم حُوِّلوا إلى القبلة الأخرى.

وفي القصاص قال لنا: (لعلكم تتقون)، وفي الصيام: (لعلكم تتقون)، ثم زاد فقال في الحكمة: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)، فهذه ثلاثة من المعاني، وهي بعض من المعنى الكبير (التقوى).

وفي السؤال عن الأهلة أجابهم بما يسمى في البلاغة أسلوب الحكيم، إذ سألوا عن الماهية، فأجابهم بالوظيفة: (يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج). حتى ذهب بعض المفسرين إلى أن التعقيب عليه بقوله: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها) يرجع إلى السؤال، وأن من إتيان البيوت من أبوابها أن يكون السؤال في محله وبصيغته الصحيحة. وليس هذا ببعيد إذا تذكرنا إلحاح بني إسرائيل في الأسئلة عن البقرة التي أمروا بذبحها، وتلدُّدَهم وتلكؤهم، حتي شدد الله عليهم بتشديدهم على أنفسهم.

وفي الحج قال لنا: (وأتموا الحج والعمرة لله)، أي لا لغرض آخر إلا أن الله أمر بهذا، وستَجْنُون المنافع الكثيرة، ولكنها ليست هي علة امتثالكم.

وفي القتال قال: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم، والله ويعلم وأنتم لا تعلمون)، فها هي قضية السورة بكل جلاء.

وقد جاءت هذه الجملة الأخيرة مرتين في السورة، والثانية في شأن الطلاق، وثالثة تشبههما في خطاب الله الملائكة: (قال إني أعلم ما لا تعلمون)، وهم قالوا لله جل ثناؤه لما سألهم أن ينبئوا بالأسماء: (سبحانك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم) على ما يقتضية الأدب والتسليم.

وفي الخمر والميسر أنبأنا بالحكمة فقال: (وإثمهما أكبر من نفعهما).

وفي شأن اليتامى قال: (والله يعلم المفسد من المصلح).

فإذا جاءتك المقادير في الشأن الأسري فسلِّم وامتثل بمعزل عن معرفتك بالغاية: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، (الطلاق مرتان)، (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)، (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا)، (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضت لهن فريضة فنصف ما فرضتم)، (والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج).

وفي المعاملات المالية يظهر التعالم والتفيهق: (ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا)، وجاءهم الجواب الإلهي الجازم لا ببيان الحكمة، لأنه يبيِّن من الحِكَم مقادير في مواطن يعلمهما، وأما الاستجابة لأمره فبمعزل عن ذلك: (وأحل الله البيع وحرم الربا)، هكذا فحسب.

وفي الشهادة بين علة استشهاد رجل وامرأتين، فقال: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)، والحكمة: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)، حسبك الأمر للامتثال، وحسبك مثل هذا لاطمئنان القلب، ومن إتيان البيوت من أبوابها أن تستقيم كما أمرت.

ولا ننس أن هذا يجري على الشجرة التي أكل منها آدم وزوجه، ويجري في قصة استكبار الشيطان وإبائه، إذ جعل عقله مقياسًا للامتثال في مواجهة أمر الله.

ومن هذا الباب قوله تعالى في السورة في كلمة جامعة: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين).

فالمطلوب أن تدخلوا في الإسلام كله، وأن تستسلموا لله بكليتكم، ولا يجوز لكم أن تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، ولا أن تدخلوا ببعض حيواتكم دون بعض، فكلكم لله، فانغمروا في الإسلام كله، واصطبغوا بصبغته الجامعة، فهذا هو شأن المتقين الذين يؤمنون بالغيب. واحذروا خطوات الشيطان وسلوك الشيطان، فإن له استدراجًا عن أمر الله خطوة فخطوة، وشيئًا فشيئًا، حتى يخرجكم منه جملة، ولا يبقى لكم منه شيء، يبدأ بالقليل ليجر إلى الكثير، ويأمر بالهين ليصل بكم إلى العظيم، فقد أعلنكم بالعداوة، وتعهد بإضلالكم وإغوائكم.

فموضوع السورة أمهات الشرائع مطلوبا التسليم لها والإيمان بالغيب فيها وأنها الحكمة البالغة والعلم الكامل، وأن اتقاء الآفات بامتثالها، كما أن بها اتقاء عقوبة الآخرة، وقد جاء في السورة ست مرات: (واتقوا الله واعلموا)، والسابعة في آخرها: (واتقوا الله ويعلمكم الله)، وقد جاء في القرآن: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) أربع مرات، مرتان منها في البقرة، والأخريان في آل عمران والنور.

والإطالة في شأن بني إسراءيل لأنهم نموذج التلكؤ في العمل بما أنزل الله، والتبديل والتحريف لما أنزله، واتخاذه ذريعة إلى غير ما شرعه وأراده، مع أنهم أيضًا التاريخ القريب والأخير للرسالات الإلهية، فساقه تعريفا به، وتحذيرًا من سلوك المغضوب عليهم ممن حُمِّلوا الرسالة فلم يحملوها، بل حمَّلوها أهواءهم وضلالاتهم وزعموا أنها الدين الذي أنزله الله.

وفي ختم السورة آيتان عظيمتان، وهما يخبران أن هذا الذي أنزله الله آمن به الرسول ومن اتبعه من المؤمنين، وعملوا به، فهو ليس فوق وسع البشر، وهو لم يذهب جفاء، بل صادف من يحمله ويعمل به، وهؤلاء يؤمنون كما علمهم الله أن الدين واحد، وهو الإسلام، ويؤمنون بالرسل جميعًا، لا يفرقون بين أحد منهم في الرسالة، يصدِّق بعضهم بعضًا، ويثني بعضهم على بعض، آمنوا بذلك وعملوا به إذ قالوا: (سمعنا وأطعنا)، وخافوا من العصيان والتقصير فدعوا: (غفرانك ربنا وإليك المصير).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين