ولكن لا كحبي أولئك

أنظر في تراجم سفيان الثوري، ومالك، وشعبة، ومسعر بن كدام، ومن قبلهم: منصور بن المعتمر، وأيوب السختياني، وسليمان التيمي، وعبد الله بن عون، ويونس بن عبيد، ومن بعدهم: سفيان بن عيينة، وابن المبارك، ووكيع، ويحيى القطان، وابن مهدي، وابن معين، وعلي بن المديني، ومن حذوا حذوهم وسار سيرتهم، من أعلام الحديث، متميزين بتقدمهم في العلم، والعمل، واستقامة السيرة، وصفاء السريرة، وتوافقهم في اللسان والجنان، لم يبلغ الساعون في المجد سعيهم، ولم يحقق أهل الصناعات والفنون إحكاما أو إتقانا يوازيهم.

ثم أراني أعجب بأهل اللغة والأدب: الخليل بن أحمد الفراهيدي، وسيبويه، والكسائي، وابن جني، والجرجاني، والزمخشري، والجاحظ، وعبد الحميد الكاتب، وابن المقفع، وابن العميد، والمحدَثين: مصطفى لطفي المنفلوطي، والسباعي، وطه حسين، وأحمد أمين، وعلي الطنطاوي.

وبالشعراء من أصحاب المعلقات، والمخضرمين، والإسلاميين، والأمويين، وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي شاعر بني حمدان، وعبقري في معرة النعمان، وشعراء الفارسية: الفردوسي، والسعدي، والحافظ، والرومي، والأمير خسرو، وشعراء الأردية: مير تقي مير، وأسد الله غالب، ومير درد، وإقبال.

وبالفلاسفة والمتكلمين: أبي نصر الفارابي، وابن سينا، والرازي، وابن رشد، والملا صدر الدين الشيرازي، والمتصوفين: الجنيد، وشبلي، وعبد القادر الجيلاني، وشهاب الدين السهروردي، ونجم الدين الكبرى، والشيخ أحمد السرهندي، ومئين غيرهم مستنهجين سبلهم وسالكين مسالكهم.

أشيد بفضل هؤلاء المشهورين في العلوم والفنون والآداب والسلوك والأخلاق، وأنوه بشأنهم، وأحبهم، ولكن لا كحبي أولئك الأولين، سابقين من جاراهم وعالين من ساماهم، لا يُشق غبارهم، ولا يُثنى عنانهم، أصافيهم مواليا إياهم، وأخالُّهم وادًّا إياهم.

أقضي العجب في التأله والتعبد من أمر سليمان التيمي: كان يصلي الليل كله بوضوء عشاء الآخرة، وكان هو وابنه يدوران بالليل في المساجد، فيصليان في هذا المسجد مرة، وفي هذا المسجد مرة، حتى يصبحا، وعن حماد بن سلمة قال: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعا، وفي التواضع بشأن أيوب السختياني، قال شعبة: ربما ذهبت مع أيوب لحاجة، فلا يدعني أمشي معه، ويخرج من هاهنا، وهاهنا لكي لا يفطن له.

وفي الخشية والخوف من مثال سفيان الثوري، قال قبيصة: ما جلست مع سفيان مجلسا إلا ذكرت الموت، ما رأيت أحدا كان أكثر ذكرا للموت منه. وعن يوسف بن أسباط: قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، فبقي مفكرا، ونمت، ثم قمت وقت الفجر، فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت: هذا الفجر قد طلع، فقال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى الساعة. وعن عبد الرحمن بن مهدي: لما طالت علة سفيان جزع، فقال: يا موت، يا موت، ثم قال: لا أتمناه، ولا أدعو به، فلما احتضر، بكى وجزع، فقلت له: يا أبا عبد الله! ما هذا البكاء؟ قال: يا عبد الرحمن، لشدة ما نزل بي من الموت، الموت - والله – شديد، فمسسته، فإذا هو يقول: روح المؤمن تخرج رشحا، فأنا أرجو. ثم قال: الله أرحم من الوالدة الشفيقة الرفيقة، إنه جواد كريم، وكيف لي أن أحب لقاءه، وأنا أكره الموت. فبكيت حتى كدت أن أختنق، أخفي بكائي عنه، وجعل يقول: أوه أوه من الموت .

وفي التقوى من قصة عبد الله بن عون، فعن مكي بن إبراهيم: كنا عند عبد الله بن عون فذكروا بلال بن أبي بردة، فجعلوا يلعنونه، ويقعون فيه يعني -لجوره وظلمه- قال: وابن عون ساكت فقالوا له: إنما نذكره لما ارتكب منك. فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة: لا إله إلا الله، ولعن الله فلانا . وعن ابن المبارك: قيل لابن عون: ألا تتكلم فتؤجر؟ فقال: أما يرضى المتكلم بالكفاف، وروي عن ابن مهدي قال: لولا أني أكره أن يعصى الله، لتمنيت أن لا يبقى أحد في المصر إلا اغتابني! أي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته لم يعمل بها ؟ !

وفي التعفف مما ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "صفة الصفوة": عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال خرج عطاء بن يسار وسليمان بن يسار حاجين من المدينة ومعهما أصحاب لهم حتى إذا كانوا بالأبواء نزلوا منزلا فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم، وبقي عطاء بن يسار قائما في المنزل يصلي، قال: فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة، فلما رآها عطاء ظن أن لها حاجة فأوجز في صلاته، ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم، قال: ما هي، قالت: قم فأصب مني فإني قد ودقت (أي رغبت في الرجال) ولا بعل لي، فقال: إليك عني لا تحرقيني ونفسك بالنار.

وفي الزهد في الدنيا والاستغناء عن الناس مما روي عن الثوري أن عبد الصمد عم المنصور دخل عليه يعوده، فحول وجهه إلى الحائط، ولم يرد السلام، فقال عبد الصمد: يا سيف! أظن أبا عبد الله نائما. قال: أحسب ذاك - أصلحك الله - فقال سفيان: لا تكذب، لست بنائم. فقال عبد الصمد: يا أبا عبد الله! لك حاجة؟ قال: نعم، ثلاث حوائج: لا تعود إلي ثانية، ولا تشهد جنازتي، ولا تترحم علي، فخجل عبد الصمد، وقام، فلما خرج، قال: والله لقد هممت أن لا أخرج إلا ورأسه معي . وعن الفريابي عن سفيان قال: دخلت على المهدي، فقلت: بلغني أن عمر رضي الله عنه أنفق في حجته اثني عشر دينارا، وأنت فيما أنت فيه. فغضب، وقال: تريد أن أكون مثل هذا الذي أنت فيه. قلت: إن لم يكن مثل ما أنا فيه، ففي دون ما أنت فيه. فقال وزيره: جاءتنا كتبك، فأنفذتها. فقلت: ما كتبت إليك شيئا قط.

فهؤلاء هم أصلي الذي أنتمي إليه، وحرزي الذي ألتجئ إليه، أولياء الرحمن، وحجج الله على خلقه، وآياته في العالمين، محمودون شيما، وكرام أخلاقا، ومهذبون طبائع، ومرضيون سجايا، أغر أيامي إذ أقرأ أخبارهم، وأضوأ ليالي إذ أنظر في آثارهم، وأطيب الأسماء إلي ما وافق أسماءهم، وألذ الأحوال إلي ما شابه أحوالهم أو كان لها مدانيا، أسعد بسعادتهم، وأنعم بنعمتهم، لا زادني المعادون لهم إلا صبابة، ولا الحاسدون إياهم إلا تماديا في هواهم، واعدتهم أن لا أهيم بغيرهم، ولا أفتتن بسواهم، لا غاب عن عيني صورهم لحظة، ولا زال عن فكري خيالهم أبدا، والصور تغيب، والخيال يزول، أقسمت على عهدي قسما موثقا، داعيا ربي أن يجعلني بارا في يميني غير حانث.

سلام الله عليكم يا أهل الحديث والأثر، النفر البيض الذين دانت لفضلهم العرب والعجم، وأقرت لشرفهم المشارق والمغارب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين