مختارات من تفسير

 

(إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٦٢)

السؤال الأول:

لِمَ عبّر تعالى في هذه الآية بـ (وَٱلَّذِينَ هَادُواْ) [البقرة:62] ولم يقل اليهود؟

الجواب:

في هذا التعبير إشارة إلى أنهم ليسوا اليهود، وإنما هم الذين انتسبوا إلى اليهود ولم يكونوا من سبط يهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام.

والنصارى جمع (نصرى)، نسبة إلى الناصرة، وهي قرية نشأت فيها مريم عليها السلام أم المسيح، وقد خرجت مريم من الناصرة قاصدة البيت المقدس فولدت المسيح في بيت لحم، ولذا سمي عيسى: يسوع الناصري، ومن ثَمَّ أُطلق على أتباعه اسم: النصارى.

السؤال الثاني:

ما وجه الاختلاف من الناحية البيانية بين آية 62 في سورة البقرة، وآية 69 في سورة المائدة وآية الحج 17؟ ولماذا النصب والرفع في: (الصابئين) و(الصابئون)؟وما دلالة التقديم والتأخير؟

الجواب:

جاء ذكر كلمة (الصابئين) في القرآن في ثلاث آيات، لكن بصور مختلفة:

فلماذا مثلاً في آية المائدة (69) قدّم (الصابئون) ورفعها وأخّر النصارى؟

والجواب أنه:

1ـ في آية البقرة ( 62 ) جاءت كلمة (وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ) بالنصب والعطف على اسم إنّ باللفظ، وجاءت في الوضع العادي بعد اليهود والنصارى , فالتسلسل هو المناسب تاريخياً.

بينما رفع (وَٱلصَّٰبِ‍ُٔونَ) في آية المائدة على غير إرادة التوكيد، ولو أراد التوكيد لنصبها , وذلك لأنّ الصابئين هم أبعد المذكورين عن الإيمان، أي: أقلهم منزلة فقلّل التوكيد لهم؛ أي: أنّ الله جعل موازنة في آية المائدة فقدّم الصابئين ولم يؤكدهم ولم يعطهم الأولوية ليكون مقامهم كما في آية سورة البقرة مؤخرين على من ذُكر معهم , وأخّر النصارى وأكّدهم, بينما في سورة البقرة قدّم النصارى وأكّدهم وأخّر الصابئين، لكنْ جعلهم ملحوقين بالنصارى.

2ـ التقديم كان لمقتضى السياق وليس التقديم للأفضل, والسياق في سورة المائدة هو ذم عقائد النصارى وأنهم كفروا بالله وجعلوا له شركاء, فأخّر النصارى لتقترب الكلمة من متابعة ذم عقائد النصارى, قال تعالى: (لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ وَقَالَ ٱلۡمَسِيحُ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ٧٢ لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّآ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۚ وَإِن لَّمۡ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ٧٣﴾ [المائدة:72-73].

لذلك رفع (الصابئون) للدلالة على أنهم أبعد المذكورين في الضلال؛ ولأنهم أقل منزلة، وأخّر النصارى لمتابعة السياق في ذم عقائدهم.

وكلمة (الصابئون) تعرب مبتدأ، وقد تكون اعتراضية وخبرها محذوف بمعنى: والصابئون كذلك.

3ـ الدليل على أنّ التقديم ليس من الضروري أنْ يكون للتفضيل قوله تعالى في سورة الحج: (ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ٤٠) [الحج:40] , فالمساجد هي أفضل المذكور في الآية لكن أحيانا يُقدم ما هو أقل تفضيلاً؛ لأنّ سياق الآية يقتضي ذلك، وكذلك نرى في ذكر موسى وهارون في القرآن أحيانا يُقدم موسى على هارون وأحيانا يُقدم هارون على موسى بحسب سياق الآيات.

4ـ في آية الحج رقم (17) قال فيها سبحانه: (وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ) فنصب الصابئين وقدّمهم على النصارى لأنّ السياق في سورة الحج موقف قضاء، والله سبحانه وتعالى لا يفرّق بين المتخاصمين ما داموا في طور الفصل (وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ) [النساء:58] فالمتخاصمون جميعهم سواء أمام القاضي حتى على المستوى اللغوي. قال تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ) [الحج:17].

5 ـ هناك فرق بين نهايتي آيتي البقرة والمائدة، علماً أنّ المذكورين في الآيتين واحد:

نهاية آية البقرة (فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ) [البقرة:62].

نهاية آية المائدة (فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ) [المائدة:69].

فلماذا جاء في البقرة (فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ) [البقرة:62] ولم تأتِ في المائدة؟

والجواب على ذلك أنه:

آ ـ السياق في سورة المائدة في ذم عقائد اليهود والنصارى بشكل مسهب, أمّا في البقرة فالكلام عن اليهود فقط وليس النصارى, أي أنّ سورة المائدة تكلمت عن اليهود أكثر مما جاء في سورة البقرة, حتى أنّ القرآن لم يذكر في البقرة العقوبات التي ذكرها في المائدة, انظر آيات المائدة [60،65] وسياق الغضب في المائدة على معتقدات النصارى أشد، فاقتضى السياق أنْ يكون زيادة الخير والرحمة في المكان الذي يكون أقل غضباً أي في آية البقرة. مع ملاحظة أنّ جوَّ الرحمة ومفردات الرحمة وتوزيعها في سورة البقرة أكثر مما جاء في سورة المائدة, ولم تُجمع القردة والخنازير إلا في سورة المائدة.

ب ـ وردت الرحمة ومشتقاتها في سورة البقرة (19) مرة، بينما وردت في المائدة (5) مرات؛ لذا اقتضى التفضيل بزيادة الرحمة في البقرة، والأجر يكون على قدر العمل للذين آمنوا من أهل الكتاب قبل تحريفه وهم مؤمنون بالله واليوم الآخر إيماناً حقيقياً.

ج ـ ورد في سورة المائدة ذكرحوالي (10) أنواع من العمل الصالح، ومنها: الوفاء بالعقود ـ الوضوء ـ الزكاة ـ الأمر بطاعة الله ورسوله ـ الإحسان ـ التعاون على البر والتقوى ـ إقام الصلاة ـ الجهاد في سبيل الله ـ استباق الخيرات.

بينما ورد في سورة البقرة أكثر من (30) نوعاً من أنواع الخير، وتشمل كل ما ذُكر في المائدة عدا الوضوء إضافة إلى [ الحج والعمرة ـ الصيام ـ الإنفاق ـ العكوف في المساجد ـ بر الوالدين ـ الهجرة في سبيل الله ـ إيفاء الدين ـ الإصلاح بين الناس وغيرها كثير ]؛ لذا اقتضى كل هذا العمل في البقرة أنْ يكون الأجر أكبرفقال:(فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ) [البقرة:62].

د ـ لم ترد الآية (فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٦٢) [البقرة:62] بهذا الشكل إلا في سورة البقرة , وترددت مفردات الجزء الأول منها (فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ) [البقرة:62] في البقرة أكثر من المائدة حسبما يلي:

 

 

جاء حرف (الفاء) في البقرة (751) مرة، وفي المائدة (291) مرة.

(لَهُمۡ) في البقرة (29) مرة، وفي المائدة (15) مرة.

(أَجۡرُهُمۡ) في البقرة (5) مرة، وفي المائدة (1) مرة واحدة.

(عِندَ) في البقرة (19) مرة، وفي المائدة (1) مرة واحدة.

(رَبِّهِمۡ) في البقرة (10) مرات، وفي المائدة (2) مرتان.

والله أعلم.

6ـ وقوله تعالى: (وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ) [البقرة:38] [المائدة:69] يفيد التالي:

آـ الفاء ليست للعطف وإنما هي جواب شرط.

ب ـ نفى الخوف بالصيغة الاسمية، ونفى الحزن بالصيغة الفعلية , وخصص الحزن بالضمير (وَلَا هُمۡ) وعطف بـ (هُمۡ) على الجملة الاسمية؛ لأنها أفصح وأثبت.

ولا يصح أنْ يقال: (لا يخافون) فالخوف شيء طبيعي موجود عند الإنسان , فالمعنى أنه لا يُخشى عليه خطر، فقد يكونون خائفين لكنّ الأمان من الله أمّنهم بأنه لا خوف عليهم.

ج ـ جعل الحزن بالفعل وأسنده إليهم, ولو قال: (لا حزن) فتعني لا حزن عليهم من الغير، بينما المهم للإنسان أنْ لا يكون هو في حزن، وليس المهم حزن الآخرين عليه.

د ـ قالوا: إنّ معنى (وَلَا خَوۡفٌ) أي: على الماضي من الدنيا، فجاء بالصيغة الاسمية للتثبيت أنه لا خوف (وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ) مما يقابلهم في المستقبل، وقد تتكرر دواعي الحزن فجاء بالفعل الدال على الحدوث.

هـ ـ قدّم الضمير: (هُمۡ) للقصر، فنفى عنهم الحزن وأثبته لغيرهم من أهل الضلال. 

وـ لم يقل: (لا عليهم خوف)؛ لأنه لا يصح المعنى ولو قالها لكان معناها: أنه نفى الخوف عنهم وأثبت أنّ الخوف على غيرهم، يعني يخاف على الكفار.

زـ لم يقل: (لا خوفَ)؛ لأنه في هذه الحالة تكون (لا) نافية لجنس الخوف، أي: للجميع، أمّا (وَلَا خَوۡفٌ) بالرفع فتفيد نفي الجنس ونفي الواحد, والسياق عيّن أنه لا خوف عليهم على سبيل المدح والاستغراق. والله أعلم.

السؤال الثالث:

ما المعنى العام المشترك بين آيات [ البقرة 62 ـ المائدة 69 ـ الحج 17 ]؟

الجواب:

المعنى العام للآيات: أنّ من آمن وعمل صالحا من كل هذه الفرق في زمانه أو زمان رسوله الخاص فله أجره, وهذا ما قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم , أمّا بعد بعثته فلا بدّ من الإيمان به والتصديق بدعوته، ولا يصح إيمان الفرق السابقة بعد بعثة الرسول الكريم (وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ) [آل عمران:85].

وفي الآية دعوة للجميع للدخول في الإسلام، وذكر الذين آمنوا بمعنيين:

آ ـ الذين آمنوا بدين أنبيائهم وفي زمانهم آنذاك, وهؤلاء مطالبون بالدخول في الإسلام إنْ كانوا لا يزالون أحياء على زمن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ب ـ غيرهم، فالجميع حتى المسلمون مطالبون بالدخول في الإسلام، والآية تعطي تساويا للجميع في طلب الدخول في دين الإسلام, وحتى يشعر اليهود الذين يظنون أنهم شعب الله المختار أنه طالما طُلِبَ من المسلمين أنْ يدخلوا في الإيمان بدين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن الأولى أنْ نطالب نحن بذلك أيضاً , والله أعلم.

السؤال الرابع:

ما سبب تقديم وتأخير كلمة (الصابئين)، وما سبب رفعها ونصبها في آيتي البقرة [ 62] والمائدة [69]؟ ولِمَ بقي الوضع على أصله في آية الحج؟

الجواب:

في سورة المائدة قوله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ُٔونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ) [المائدة:69] وفي سورة البقرة: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ) [البقرة:62].

بشكل عام نقول: (النصب) ليس فيه إشكال، وإنما (الرفع) هو الذي كثيراً ما يُسأل عنه، والنصب معطوف على منصوب.

1ـ الرفع في آية سورة المائدة من حيث الناحية الإعرابية ليس فيه إشكال عند النحاة؛ لأنهم يقولون على غير إرادة (إِنَّ) أي: على محل إسم إنّ.

وفي الأصل اسم إنّ قبل أنْ تدخل عليه مرفوع، فهذا مرفوع على المحل، أو يجعلونه جملة: (والصابئون كذلك)، لكن لماذا فعل ذلك حتى لو خرّجناها نحوياً؟ هي ليست مسألة إعراب فالإعراب يُخرّج؛ لأنه يمكن أنْ نجعلها جملة معترضة وينتهي الإشكال، لكنْ لماذا رفع؟

(إِنَّ) تفيد التوكيد، معناه أنه قسم مؤكّد وقسم غير مؤكد، أي: (الصابئون) غير مؤكد والباقي مؤكد لماذا؟ لأنهم دونهم في المنزلة، فهم أبعد المذكورين ضلالاً، ويقول المفسرون: إنّ هؤلاء يعبدون النجوم، (صبأ) في اللغة، أي: خرج عن المِلّة، عن الدين , فالصابئون خرجوا عن الديانات المشهورة، وهم قسمان:

قسم قالوا إنهم يعبدون النجوم، وقسم متبعون ليحيى عليه السلام، فهؤلاء أبعد المذكورين، والباقون أصحاب كتاب، الذين هادوا أصحاب كتاب وعندهم التوراة، والنصارى عندهم كتاب الإنجيل، والذين آمنوا عندهم القرآن, بينما الصابئون ليس عندهم كتاب, وبالنسبة لنا هم أبعد المذكورين ضلالاً، ولذلك هم دونهم في الديانة والاعتقاد ولذلك لم يجعلهم بمنزلة واحدة فرفع فكانوا أقل توكيداً. و(إِنَّ) للتوكيد. نقول: محمد قائم،ونقول: إنّ محمداً قائم، هذه أقوى.

2ـ لكن لماذا لم يأت بها مرفوعة ووضعها في نهاية الترتيب؟

في آية التوبة (وَأَذَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة:3] ما قال: (ورسولَه) بالنصب، مع أنه يمكن العطف على لفظ الجلالة (ٱللَّهَ)، فلم يعطف على اسم الجلالة وإنما عطف على المحل، أي: (ورسولُه بريء)؛ لأنّ براءة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليست ندّاً لبراءة الله تعالى ولكنها تبعٌ لها وليست مثلها، فبراءة الله تعالى هي الأولى، ولو قال: (ورسولَه) بالنصب تكون مؤكدة كالأولى، فإشارة إلى أنّ براءته ليست بمنزلة براءة الله سبحانه وتعالى، وإنما هي دونها فرفع على غير إرادة (إِنَّ)، حتى في الشعر العربي قول الشاعر جرير:

إنّ النبوةَ والخلافةَ فيهم= والمكرماتُ وسادةٌ أطهارُ

قال: (المكرماتُ) بالرفع ولم يقل: (المكرماتِ) بالنصب؛ لأنّ هؤلاء السادة لا يرتقون لا إلى النبوة ولا إلى الخلافة، هذه الدلالة موجودة في الشعر ففهمها العرب.

3ـ يبقى السؤال حول التقديم والتأخير في الترتيب: آية المائدة قال: (وَٱلصَّٰبِ‍ُٔونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ) [المائدة:69] وآية البقرة: (وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ) [البقرة:62]، أي: في المائدة قدّم ورفع الصابئين؛ لأنه أتبع هذه الآية بذمّ النصارى في المائدة ذماً فظيعاً على معتقداتهم، وتكلم عن عقيدة التثليث فجعلهم كأنهم لم يؤمنوا بالله وكأنهم صنف من المشركين , قال تعالى:

(لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ) [المائدة:72]

(لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّآ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۚ وَإِن لَّمۡ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ٧٣ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسۡتَغۡفِرُونَهُۥۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ٧٤) [المائدة: 73 - 74].

فلمّا كان الكلام عن ذم العقائد (عقيدة النصارى) أخّر النصارى حتى تكون منزلتهم أقل وقدّم الصابئين مع أنهم لا يستحقون، وأخّر النصارى لأنه ذمّ عقيدتهم.

4ـ في سورة الحج تحدث عن مطلق الإيمان والكفر والحساب يوم القيامة، لذلك لمّا ذكرهم أولاً ذكرهم بالتأكيد ثم جمعهم جميعاً حتى يأتي معنى كلمة يفصل بينهم. لاحظ الآية: (وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يُرِيدُ١٦إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ) [الحج: 16 - 17] إذن هنا لا مجال ولا معنى لفصل المؤمنين؛ لأنّ الفصل سيكون يوم القيامة.

السؤال الخامس:

قال في آية البقرة: (وَعَمِلَ صَٰلِحٗا) [البقرة:62] فما الفرق بينها وبين: (فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا)؟

الجواب:

في عموم القرآن إذا كان السياق في العمل يقول: (عَمَلٗا صَٰلِحٗا) كما في آخر سورة الكهف (فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا) [الكهف:110] لأنه تكلم عن الأشخاص الذين يعملون أعمالاً سيئة , ويكون السياق في الأعمال نحو: (قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا١٠٣ ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا) [الكهف:103-104] والسورة أصلاً بدأت بالعمل (وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا) [الكهف:2].والله أعلم.

أمّا قوله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ) [البقرة:62] فليست في سياق الأعمال فقال: (وَعَمِلَ صَٰلِحٗا). والله أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين