وما أنزل على الملكين ببابل.. دفع الاعتراضات

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

تعقيبا على مقالي (وما أنزل على الملكين ببابل)، فقد قيل إن فيه تكلفًا واعترض عليه ببعض الاعتراضات، من ذلك:

1. أنه يصح أن نطلق على الملائكة رسلا، لكن لا يصح أن نطلق لفظ الملائكة على البشر.

2. أن ما ذهبت إليه هو ترجيح للقول الضعيف، وأن الصحيح أنهما ملكان أرسلهما الله تعالى لتعليم السحر ابتلاء، وذلك لأن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبوابا غريبة من السحر، وصاروا يدعون النبوة.

3. أن السحر قد شاع في بني إسرائيل فصاروا إذا جاءهم رسول بمعجزات خلطوا بينها وبين السحر فلم يهتدوا، فأنزل الله الملكين يعلمان الناس في بابل السحر فيميزوه من المعجزة، كما تمكن سحرة فرعون من هذا التمييز مذ رأوا معجزة الثعبان المبين، ولكن الملكين يحذران الناس من استعمال السحر لأنه قرين الكفر.

فأقول وبالله تعالى التوفيق:

بداية ما ذكرته في المقال لا يعدو أن يكون محاولة لفهم الآيات في سياقها، ولا يعني ذلك الانتقاص من قدر الأئمة العلماء، وما قالوه هو محل احترام وتبجيل.

وأما دفع الاعتراضات فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والمدد:

أما الاعتراض الأول فمدفوع بوجوه:

الأول: أن لفظ (الملك) لغة يطلق على الرسول، أي رسول كان، سواء أُرْسِلَ من الله تعالى للبشر، أو أرسل وسيطًا بين بعض الناس وبعض، وقد استخدمته العرب منذ عصورها السحيقة وإلى زمن البعثة النبوية وما بعدها، ويكفي إلقاء نظرة في معاجم اللغة في الجذور الآتية: (ملك، ألك، لأك، لاك)، وهي الجذور التي ورد فيها اللفظ، وقد ذكرت بيتين من الشعر شاهدين على ذلك، ولم أتوسع بذكر الشواهد؛ لأن ذلك يدرك في مظانه من كتب اللغة والمعاجم، فكيف يقال إذن إنه لا يمكن إطلاقه على البشر؟!

الثاني: أن الملائكة أصلا سميت ملائكة من معنى الرسالة؛ لأنهم رسل ووسائط بين الله تعالى وبين الناس، هذا هو سبب التسمية، وإلى ذلك ذهب الجمهور، قال الطبري: «فسميت الملائكةُ ملائكةً بالرسالة، لأنها رُسُل الله بينه وبين أنبيائه ومن أرسلت إليه من عباده» [تفسير الطبري 1/ 447]. وقال البيضاوي: «لأنهم وسائط بين الله تعالى وبين الناس؛ فهم رسل الله أو كالرسل إليهم» [أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي، 1/ 67]. وقال الطاهر بن عاشور: «اسم الملك من الإرسال لأن الملائكة رسل الله إما بتبليغ أو تكوين» [التحرير والتنوير، الجزء الأول، الكتاب الثاني، ص 398].

الثالث: أن هذا اللفظ عريق في اللغات العروبية القديمة كالعربية والعبرية والحبشية وغيرها مما يطلق عليه اللغات السامية، ومعناه في كل هذه اللغات الرسول أو المرسل، بل قد ادعى البعض أن العرب قد أخذوه عن الحبشة، متناسيا أن كلا من العرب والأحباش أصلهم واحد، ويعدون جميعا من الساميين، وأصل لغاتهم واحد، وإن كانت لي ملاحظة على تلك التسمية (السامية) [انظر: مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، 3/ 122].

أما الاعتراض الثاني، وهو أني قد رجحت القول الضعيف، فأقول وبالله التوفيق:

صحيح أن ما ذهبت إليه ربما أشار إليه العلماء بصيغة التضعيف، لكنَّ لي على كل حال سلفًا في هذا القول، وإن لم يتوسع فيه أحد كما توسعت فيه، وقد اعتمدت في ترجيحي لهذا القول على أمرين:

الأول: قراءة الملِكين بكسر اللام، وهي قراءة ابن عباس والحسن والضحاك ويحيى بن أبي كثير وسعيد بن جبير والزهري، وإن لم أشر إلى ذلك في المقال، ويفهم من قراءة هؤلاء الأئمة أن مذهبهم أن هذين الملكين كانا بشرين لا ملكين من ملائكة السماء.

الثاني: ما جاء في سياق الآية {وما أنزل على الملكين}، والملائكة تنزل بالشيء، لا يُنْزَل عليها، وربما يدعي البعض أنه ملكا نزل عليهما بما أراد الله عز وجل أن يبلغه لهما، لكن قوله: {ببابل}، ينفي ذلك، فقد كان الملكان ببابل، إلا أن يزعم أن الله تعالى أرسل من السماء ملكا إلى الملكين ببابل!

أما الاعتراض الثالث، وهو أن السحر لما كثر وصار السحرة يدعون النبوة فأرسل الله تعالى ملكين يعلمان الناس السحر ليفرقا بين السحر والمعجزة، فهو مدفوع بوجوه:

الأول: قال الحسن في تفسير الملكين: (كانا علجين من علوج بابل ولم يكونا مَلَكين) [انظر على سبيل المثال لا الحصر: تفسير السمعاني 1/ 116، لا أظن أن كتابا من كتب التفسير سيخلو من الإشارة إلى ذلك].

وقال ابن أبزى إن الملكين هما داود وسليمان [تفسير ابن عطية 1/ 186]، لكنه قول واهن؛ لأن داود وسليمان لم يكونا ببابل.

يفهم من ذلك أنه لا يوجد إجماع على كونهما ملكين من ملائكة السماء، ولم يُجْزَم بذلك.

الثاني: أن الله تعالى لا يرسل الملائكة لإقامة الحجة على الناس، فقد ذكر تعالى طرق الوحي فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].

وحين طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم إرسال ملك معه حتى يصدقوه، جاء القول قاطعا من الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8 - 9].

الثالث: صحيح أن بابل قد اشتهرت بالسحر، لكن ليس ذلك مدعاة لإرسال الملائكة من السماء لتحذير الناس، وتعليمهم السحر، لأنا نعلم أن معجزة كل نبي تكون من جنس ما برع فيه قومه، ولذا كان المناسب إرسال الرسل ليعلم الناس الفرق بين المعجزة والسحر، كما فعل موسى عليه السلام، وإلا لحق لمشركي العرب أن يطلبوا رسلا من الملائكة.

الرابع: أن سياق الآية ينفي أن هذين الملكين كانا يعلمان الناس السحر، لأن الآية نسبت إلى الشياطين تعليم الناس السحر وما أنزل على الملكين، ففهم من ذلك أن ما نزل على الملكين لم يكن سحرا.

ربما بقي اعتراض لم يُذكر، لكني أورده على نفسي وأجيب عنه، وهو أني أزعم أنهما بشران رسولان، بينما الحسن مثلا وغيره ممن يرى أنهما بشران، يرون أنهما ساحران، ودفع ذلك الاعتراض أيسر من الاعتراضات السابقة؛ لأن الآية الكريمة تذكر تحذيرهما للناس، وقولهما: {إنما نحن فتنة فلا تكفر}، ومحال أن الساحر يحذر الناس الكفر، بل الساحر يدعو الناس إلى الكفر.

والله تعالى أعلى وأعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين