تحرّش الحال وتحرّش الأقوال والأفعال!

من الفوارق البنيوية بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية بتجلياتها الليبرالية الرأسمالية، الطابع الفردي الصارخ لدى الغرب، وطابع الجماعة في الثقافة الإسلامية، مع عدم التفريط بالجانب الفردي حدا جعل بعض المجددين في الثقافة الإسلامية ممن لم يتبين جيدا منزلة هذا الأصل وما ينبثق عنه من فروع، يخلط بين الإسلام والليبرالية الغربية، تماما كما خلط سابقون بين الإسلام والإشتراكية في طابعهما الاجتماعي!

وإن كانت فتنة الاشتراكية جرفت الناس في أواسط القرن المنصرم فإن فتنة الليبرالية لم تزل تجرف حتي بعض المهتمين بعلوم الشريعة اليوم، فتغلبهم سطوة الفردانية المزعومة حتى يكادوا أن يقدسوها، ولا يرون للجماعة معنى! ولذلك يقفون مستنكرين لتدخل المجتمع أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، ودعوة للخير، ونصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم! 

صارت ثقافة أن تمرّ بالمنكر فتصمّ أذنك وتتعامى عنه وتسكت، قيمة يدعونا بعض الأفاضل لنتربى عليها من ألمانيا وفرنسا! بينما صاروا ينكرون على الذي يدعو الناس بجنسيهم للحشمة، ويؤكد للفتاة المتبرجة بزينتها ومفاتنها، والمستهترة بحفظ مواطن الإثارة في لبسها وصوتها وريحها ووجودها أنك شريكة في جريمة التحرش والاغتصاب، جنبا إلى جنب ذلك الساقط الذي أطلق بصره ولسانه وأركانه وتجاوز حدوده!

إن تنبيه الفتاة لتأثير ما تقوم به على الشاب المستهتر لا يعفي الشاب من فاحش قوله ومنكر سلوكه، ولكنه يتناول موضوعيا أمورا تكون مطية لفاحشته وتحرشه...

إن أمر الله سبحانه للمؤمنين بأن يغضوا من أبصارهم تلاه أمره المؤمنات بأن يحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهنّ إلا ما ظهر منها...

عدم حفظها ما أمرت بحفظه لا يعفيه من إثم عدم غضّه ما أمر بغضّه، بكل ما يترتب عليه من منكرات تابعة، لكن هذا لا يعني بحال أنها لا تتحمل وزر ما تسببته من منكر بتمهيدها له، لذلك جاء النهي القرآني عن الخضوع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، والتعقيب بالفاء هنا له دلالة في السياق، إذ الغنج والخضوع يبدوان سابقين مباشرة لأثرهما وهو طمع ذلك المريض!

قد يتخلف ذلك لمجاهدة ما في لحظة أوبة لكن طبيعة الهمّ من الطرفين كل منهما بالآخر فطرية، ومجاهدة هذا الهوى يحتاج عزيمة يوسفية ترى برهان الله الذي رآه.

لأجل هذا كانت منزلة الرجل الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله تستأهل جائزة أن يكون من السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه.

غير أن هذا لا يعني أن أمثال امرأة العزيز ممن يقولون للشباب بحالهم أو بمقالهم: هيت لك، ليسوا شركاء ذلك المتحرّش في تحرّشه!

حين يأمر الله سبحانه نساء المؤمنين بأن يدنين من جلابيبهنّ ويعلّل ذلك صريحا: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين)، يصبح بعض هؤلاء المتعصرنين في فقه الشريعة ظاهريين لا مقاصديين، وتصبح فجأة العبرة لديهم بخصوص السبب لا عموم اللفظ، ويرفضون فقه الآية خارج سياق (إماء وحرائر) بحسب سبب النزول! والآية على كل حال لا تلتقي مع فلسفتهم الفردية حتى بذلك التأويل الضيق لو سلمنا بعدم التعميم، فثمة ربط بين لبس المؤمنة الحرّة زيّ الجواري والإماء وبين أذى المؤذين..

ثمة ربط قرآني بين من يضربن بأرجلهنّ ويخشخشن بخلاخلهنّ وبين إثم أن يُبدين للناس محاسنهنّ وما خفي من زينتهنّ!

لذا كانت التي تستعطر -كما في الحديث- فتمرّ على قوم ليجدوا ريحها زانية!

فالزنا علاقة شراكة باطلة، وتعاون على الإثم، يتشارك به ويتعاون طرفان، هذا يتحرّش بحاله، وذاك يتحرّش بمقاله وأفعاله، أما حين يعتدي فيه طرف على آخر دون رغبة وتمهيد من الآخر فهو اغتصاب وحرابة تستوجب في الشريعة أوقع النكال..

ليس الاغتصاب الذي يكون إثمه على طرف واحد هو الجريمة فقط في الشريعة، بل الزنا الذي يرتضيه الطرفان جريمة أيضا..

ليس التحرّش من طرف واحد هو المنكر فقط، بل التحرّش المتبادل منكر أيضا، والتي تتحرّش بحالها أمرنا بتغيير منكرها تماما كتغييرنا لمنكر من يتحرش بأقواله وأفعاله، أما أن التربية في ألمانيا وفرنسا تجعل الناس يمرّون بالفعل الفاضح فلا يحرّكهم ولا يحرّكونه -كما يقول أحد من استغربتها من مثله- فلا يسلّم له ولو كان أستاذا بفلسفة الأخلاق الإسلامية أن التربية تقضي على إثارة الموقف!

ولا قيمتهم بعدم التدخّل في مثل هذه الفواحش هي قيمنا إزاء المنكر، وقد لُعن أسلافهم بحملهم لذات القيم. (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين