تفسير

ورد إلي سؤال من قبل الباحث القرآني المعروف الأستاذ نعمان علي خان المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية عن تفسير قول يعقوب عليه السلام "يا بني لا تدخلوا من باب واحد، وادخلوا من أبواب متفرقة" مع استعراض أقوال السلف فيه.

الجواب:

قال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: يقول تعالى ذكره: قال يعقوب لبنيه لما أرادُوا الخروج من عنده إلى مصر ليمتاروا الطعام: يا بني لا تدخلوا مصر من طريق واحد، وادخلوا من أبواب متفرقة، وذكر أنه قال ذلك لهم لأنهم كانوا رجالا لهم جمال وهيئة، فخاف عليهم العينَ إذا دخلوا جماعة من طريق واحدٍ، وهم ولد رجل واحد، فأمرهم أن يفترقوا في الدخول إليها.

ونقل ذلك عن بعض السلف، فعن ابن عباس، قال: رهب يعقوب عليه السلام عليهم العينَ. وعن محمد بن كعب، قال: خشي عليهم العين. وعن قتادة: خشي نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم العينَ على بنيه، كانوا ذوي صُورة وجَمال، وقال الضحاك: خاف عليهم العينَ، وعن ابن إسحاق قال: خشي عليهم أعين الناس، لهيئتهم وأنهم لرجل واحدٍ.

قال الزمخشري في الكشاف: وإنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد، لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة، اشتهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من بين الوفود، وأن يشار إليهم بالأصابع، وقال: هؤلاء أضياف الملك، انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان، وما أحقهم بالإكرام، لأمر ما أكرمهم الملك وقربهم، وفضلهم على الوافدين عليه، فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة، فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور، فيصيبهم ما يسوؤهم، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في الكرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين مغمورين بين الناس.

وقال الماوردي في النكت والعيون: وفيما خاف عليهم أن يدخلوا من باب واحد قولان:

أحدهما: أنه خاف عليهم العين؛ لأنهم كانوا ذوي صور وجمال. قاله ابن عباس ومجاهد.

الثاني: أنه خاف عليهم الملك أن يرى عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسدًا أو حذرًا. قاله بعض المتأخرين.

قلت: ما ذهبوا إليه من تعليل أمر يعقوب بنيه بالدخول من باب واحد لأنه خاف عليهم العين مشكل من وجوه:

الأول: لما ذا لم يخف عليهم العين في المرة الأولى، إذ هبطوا مصر ودخلوا من باب واحد.

والثاني: لماذا خاف عليهم في المرة الثاني ولم تصبهم العين في المرة الأولى؟ ورجعوا إليه فرحين جذلين.

والثالث: وكيف ينفعهم التفرق عند الأبواب وهم سيجتمعون عند قصر الملك؟ أفلا تصيبهم العين إذا اجتمعوا في وسط المدينة حيث يلتقي الناس من البلدان النائية والأجناس المختلفة؟ وبذلك يظهر ضعف جواب الزمخشري.

والرابع: ولماذا لم يخف عليهم العين في الطريق؟ حيث يمرون على القرى وأخلاط الناس، وفيهم عائنون وحساد.

والخامس: إنهم من بيت النبوة، فلا بد أن تكون لديهم صلوات وأدعية وكلمات تحميهم من العين والحسد، أفلا يكفي التعوذ بالله من شر العين والحسد ومن شر النفاثات في العقد؟

والسادس: إن الله تعالى ذكر أن دخولهم من حيث أمرهم أبوهم لم ينفعهم "ولمّا دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء"، ولم ينص القرآن على أنهم أصابتهم العين؟ فلا بد أن يكون في قلب يعقوب شيء آخر لم يتحقق.

والجواب عما نقله الماوردي عن بعض المتأخرين لا يلتئم، لأنهم سيجتمعون عند الملك مهما دخلوا من باب واحد أو دخلوا من أبواب متفرقة.

فما التفسير الأوفق للآية؟

قلت: لما استكشف يعقوب عليه السلام أبناءه عن مصر عرف أن الناس يقصدونها من كل بلد ويؤمونها من كل قطر، ولا سيما إذ عمت المجاعة تلك الأراضي، فخطر بباله لعل يوسف يوافي مصر في قوافل الناس، فأراد أبناءه أن يتفرقوا في المدينة، فإن كان يوسف دخلها فلعلهم يقفون عليه أو يهتدون إلى أخباره، وروي عن إبراهيم النخعي أن يعقوب قال ذلك لأنه كان يرجو أن يروا يوسف في التفرق، وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي في قوله: (وادخلوا من أبواب متفرقة) قال: علم أنه سيلقى إخوته في بعض الأبواب.

وهذا يفسر قوله تعالى "إلا حاجة في نفس يعقوب"، فالحاجة هي ما خطر بباله من مصادفتهم ليوسف إذا تفرقوا في المدينة، ولكن ذلك لم يغن شيئا، فإنهم لم يلقوا يوسف في طرقات مصر ومحالها، فيوسف عزيز مصر، واجتمعوا به في المرة الأولى، وعليه نزلوا كلما دخلوا مصر، ولكنه أسرَّ بالأمر لمصلحة رآها.

هذا ما عندي، والله أعلم بالصواب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين