الدينُ الإسلاميُّ أسلوبُ حياةٍ (2/2)

الإسلام منهج ثابت.

الإسلامُ منهجٌ وليس نظريَّةً، منهجٌ مُتكامل يَستهدفُ تحقيقَ إقامةِ المجتمع البشري، الربَّانيِّ المصدر، الإنسانيِّ الاتجاه، وما يزال ارتباط الإسلام بمنابعِه الأصيلةِ من القرآن والسنة، ونصِّه الموثَّق هو العامل الأول والأكبر الذي يَحُولُ دون سقوطِه في هُوَّةِ الانحرافِ، وهو الذي يُعطيه القدرةَ الدائمةَ على إعَادة تشكيل نفسِه بعد الأزمات وفي مواجهة التحديَّات.

إنَّ محاولةَ وضعِ الإسلام تحتَ ضوء المناهجِ العصريَّة المتَّحدة من الفكر الماديِّ من شأنه أن يحجبَ حقيقةَ أبعاده. ولقد عَجز علمُ الأديان المقارن عن تحليلِ الإسلام كما فعلَ مع بقيَّة الأديان، ذلك لأنَّه أسقطَ أهمَّ معالمَ هذا الدين وهو الوحي والنبوة وعالم الغيب.

فالإسلام الذي هو ليس من صنع البشر وليس كتابه من عمل البشر والذي يختلف عن المذاهب والنظريَّات الخاضعة لأهواء البشر، والذي يستمدُّ أصالته من مصدره الربَّاني ويتجاوبُ مع الفطرة والعقل والعلم، ويوازي الطبيعة البشرية ولا يُناقضها لعجزِ أدوات العصر عن استيعابه إلا إذا درسته من خلال مناهجه هو.

إنَّ للإسلامِ ذاتيَّتَه ومقاييسَه الخاصَّة، ومفاهيمُه تنبعث من أصولٍ ثابتة هي: الوحي والفطرة والعقل، بينما تنبعث مفاهیم الفلسفات من الفروض التي تبدأ بالظنِّ وتُبنى على القرائنِ، ومفهومُ الإسلامِ يُقرِّر أنَّ لكل قيمةٍ من القيم وجهَيْهَا الماديَّ والمعنويَّ لا انفصالَ بينهما، بينما تُقرِّر الفلسفاتُ وجهاً واحداً إما مادياً أو معنوياً، فقد عجزت عن التكامل وقبلت بالانشطاريَّة.

إنَّ الله تبارك وتعالى قد اختارَ لهذه البشريَّة في ختامها ثلاثةَ أمور: الإسلامَ ديناً، ومحمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً، والقرآنَ كتاباً، واختار اللغة العربيَّة لغة القرآن: لغةً لأهلِ الجنَّة، وأنه حقَّق ثلاثَ ظواهرَ هامَّة: 

أولاها: هيمنة القرآن على كل ما سبقه من كتب السماء.

وثانيها: وراثة الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتراث النبوَّة كله، وميراث إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

وثالثها: إظهار الإسلام على الدين كلِّه.

إنَّ مفهوم الدين في نظر الغرب هو إقامة العلاقة بين الإنسان والله تعالى، وحسب، دون أن يكون للدين صلة بإقامة العلاقة بين الإنسان والمجتمع في شؤون الاقتصاد أو السياسة أو القانون أو التربية. 

وللغرب في هذا الفهم للدين أسباب خاصَّة به، وعوامل وظروف تاريخيَّة تتصل بالدين وبالتفسير الغربي للدين، ومدى ارتباط ذلك كله بالفكر اليوناني والقانون الروماني والحضارة السائدة إذ ذاك، فقد دخل الدين على أوروبا وهي مشكلةٌ تماماً، مجتمعاً وحضارةً فاقتصر تأثيره على مجال الروح والأخلاق، أما بالنسبة للإسلام فالأمرُ يختلف، فقد شكَّل الإسلام مجتمعاً من اللبنةِ الأولى على مفاهيمِه وقيمِه ومقاصدِه، وإذا قال الغرب بفصل الدين عن السياسة، أو عن المجتمع، أو عن الأخلاق، أو عن الاقتصاد فذلك شأنه، وهو أمر متَّصل بتاريخه وظروفه. أما الإسلامُ فليس مفصولاً عن ذلك كلِّه بل مُرتبط به؛ فقد أقام البناء كله على أساس التكامل والوحدة.

لقد رفع الإسلامُ رايةَ العقل والعلم والتجريب وحملها إلى العالم كله، وكانت أوروبا قبلَ الإسلام تعيشُ على الرهبانيَّة والفكر النظري المتَّصل بالسحر والأسطورة، فكان الإسلام هو مصدر الانتقال من عالم النظر والتأمُّل إلى عالم التجريب. 

الإسلام دعوة إلى التحرُّر:

إنَّ أول الجهاد الدفاع عن روح الإسلام في بلاده، ذلك أنَّ روح الإسلام إذا ضعفت في المسلمين فلن يستطيعوا أن يحملوا أمانتَه إلى العالمين، ولا أن يَحتملوا في سبيل تبليغه كلَّ فتنة ومحنة ومشقَّة.

ولذلك فقد كانت دعوة الإسلام الأولى إلى التحرُّر من التبعيَّة ومُعارضة التقليد للأجنبي حتى لا يذوبَ المسلمون في کیانِ الأمَم، بينما جاءوا ليحملوا للبشريَّة فكراً جديداً يختلف عن الفكر البشري، وربما يتعارض كثير من قيمه ومقولاته. 

ذلك أنهم حَمَلة رسالة التوحيد الخالص للعالمين، وللتوحيد شارةٌ واضحة قادرةٌ على مُواجهة كلِّ الإشارات والنظريات بالرأي الواضح الصحيح.

ولذلك، ولكي تكون هناك أمَّة قائمة بالحق إلى قيامِ الساعة حذَّر الإسلام المسلمين من التشبُّهِ بغيرهم، وحرص على أن تظلَّ شخصية المسلم وفكره وحضارته ومجتمعه متميزة، ومن أجل ذلك أعلن حرباً لا هوادة فيها على التقليد وعلى التبعية: «من تشبَّه بقومٍ فهو منهم»، ودعا إلى إعلان التمييز في القيم والأخلاق والمُثل. 

ولا ريب أنَّ التقليد فقدانٌ للشخصية، والتبعيَّة عبودية للفكر والعقل، ولا ريب أنَّ آفة الضعيف هي تقليد القوي، ولا يجري التقليد إلا في جوانب الضعف والهدم والانحلال وتتركَّز دائماً على الانهماك في اللذات والتخلي عن القوة أو التماسك أو الصمود.

ولا يمنع هذا الموقف من مُراجعة كلِّ ما تقدمه الأمم والأخذ بالصالح منه والانتفاع به، على أن يكون المسلمون قادرين على تجاوزِ العناصر التي تدمِّر شخصيتهم وقِيَمَهم وذاتيَّتَهم.

ولذلك فإنَّ الدعوة التي تدعونا إلى تقليدِ الغرب ومُتابعته في مظاهر الاجتماع والأخلاق هي دعوة تتعارض مع الأصالة، والفطرة، ومع طبيعة النفس الإسلامية ومزاجها الذي شكَّله الإسلام، ولاريبَ أنَّ الظن بأنَّ تلك التبعيَّة تلحقنا بركبهم هي خطأ شائع، ونصيحة ماكر، ودعوة ضالة.

الإسلام وحريَّة البحث:

سوف يعجزُ العلم عن القضاءِ على الدين، بل إنَّ الحقيقة المرتقبة هو أن يؤكد العلمُ الدينَ ويعمل في إطاره. فالإسلام يقرِّر الإطارَ الأخلاقي للحياة، ويرسم منه العلاقات المثلى بين الإنسان والإنسان، ويجعل العلم ذلك في خدمة البشرية لا في تهديدها وتدميرها لخدمة جماعة من المتسلطين.

ولا ريب أنَّ الإسلام هو الذي أقام للعلم منهجه أصلاً ومنطلقه أولاً نتيجة حريَّة البحث وتسامح النفس وسلامة القصد، فمَهَّد ذلك كله لظهور المنهج التجريبي، والعلم اليوم بالرغم مما تحوطه من مظاهر الماديَّة وتضطرب حوله من انحرافات الفلاسفة، فإنَّه قد خطا خطواتٍ واسعة نحو إقرار الإيمانِ بالله سبحانه والكشف عن عظمة الخالق تعالى، والاعتراف بعالم الغيب، وهو ما زال يعملُ على تحرير نفسه من مفاهیم الفلسفات الماديَّة والجبريَّة، ونحن كمسلمين نؤمن بأنَّ أيَّ حديثٍ عن الصراع بين العلم والدين، فهو ليس عن ديننا، ولا يتصل بتاريخنا، وهو لمحيط غير محيطنا، فإنَّ تاريخنا كله لم يعرف هذه التحديَّات ولا ذلك الصراع الذي يحاولون نقله الآن إلى أفق الفكر الإسلامي وهو منه براء.

ويكشف مدى صلة الإسلام بالعلم أنَّ مادة (علم) وَرَدَت في القرآن الكريم ۸۱۰ مرة، وأنَّ أول كلمة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن هي: {اقْرَأ}، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالقلم وما یسطرون، وقد أطلقت كلمة العلم في الإسلام فلم تنحصر في علم ما، أو في نوع معيَّن.

ونحن نعلم أنَّ ما وصل إليه الإنسان بعلمه عن هذا الكون هو قليل، وأنَّ هذا الذي عَلِمه لا يستطيع أن يفسِّر له سر الكون أو الحياة، وأنَّ العلم على الرغم من غروره تواضع، فأقرَّ بأنَّ مُهمَّته هي تفسير ظواهر الأشياء.

ومن أبرز مَفَاهيم الإسلام التي تميِّزُه تميزاً واضحاً عن الفكر البشري أنه:

(أولاً): فصل بين الله والعالم. 

(ثانياً): فصل بين الألوهيَّة والنبوَّة. 

(ثالثاً): أنَّه قرَّر استحالة أن يرقى الإنسانُ إلى مَرتبة الألوهيَّة. 

(رابعاً): ألغى الوساطة بين الله تعالى والإنسان. 

(خامساً): أنكر سقوط التكاليف الشرعية عن أي إنسان مهما بلغ قدره من الإيمان. 

كذلك أسقط الإسلام نظريتين باطلتين: 

الأولى: الادِّعاء بأنَّ الناس كانوا وثَنيين في الأصلِ ثم عَرَفوا التوحيد، والأخرى: أنَّ الدين يَنتشر بالظروف الماديَّة أو العوامل الاقتصاديَّة.

والخلافُ في الفرعيَّات أمرٌ ضروري لابدَّ منه: فأصول الإسلام من آيات قرآنيَّة وأحاديث نبوية تختلف في فهمها وتصورها العقول والأفهام، وليس هذا الاختلاف عيباً، إنَّما العيب في التعصُّب للرأي الزائف إذا ظهر الحق، أو الحَجْر على عقول الناس وآرائهم حتى لا ترى الحقيقة واضحة.

وقد جمع الإسلام بين ما يُظنُّ أنه مُتناقض في الفكر المادي أو الوثني:

جمع بين الأرض والسماء في نظام الكون، وجمع بين الدنيا والآخرة في نظام الدين، وجمع بين الروح والجسد في نظام الإنسان، وجمع بين العبادة والعمل في نظام الحياة، وسلكها جميعها في نظام مُوحَّد هو الطريق إلى الله تعالى.

تتفق مختلف الثقافات والأمم على أسماء القيم الإنسانيَّة ولكنها تختلف في تفسيرها، فالحريَّة والعدل والأخلاق والمعرفة والسلام والحرب، كل هذه المفاهيم تجد لها في كل فكر وأمَّة ومذهب مفهوماً متميزاً.

أما الإسلام فإنَّه يقرر في ذلك أصفى وجهة نظر، وأصدق رأي، مستمداً ذلك من الفطرة الإنسانيَّة الصافية، وتكامل النظرة الجامعة، وبذلك بنى الإسلام منهجاً مُستقلاً له طابعه الربَّاني المستَمدُّ من الوحي والنبوة، والقائم على أساس الإخاءِ الإنساني والمسؤولية الفرديَّة، والجزاء الأخروي، بعيداً عن الإكراه في الدين، أو العنصريَّة، أو الوثنيَّة، أو الماديَّة، أو الإباحيَّة، فأنشأ بذلك الأمَّة المختارة بالإيمان والتوحيد.

وإنَّ أبرز مظاهر أصالة الإسلام إما تتمثَّل في أنَّه يرفع كل عنصر غريب عليه، ومن هنا تخطئ النظريَّة التي تقول بتطوير الدين، ولا تنطبق على الإسلام أساساً، فالإسلام له ذاتيَّتُه الخاصَّة القائمة على دعائم من الثبات لها ما يكفل استمرارَ العطاء والرقابة والتوجيه، مع السماح بالحركة من داخل الإطار العام الواسع المرن، وسماحة التغيير في الفروع، فهي قادرة على الامتصاص ولكنها ليست أهلاً للاحتواء: وما زال الفكرُ الإسلامي الأصيل يقاوم دون أن يستسلم وهو آخر الحصون الصامدة في وجه الغزو.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: (كتاب أحاديث إلى الشباب عن العقيدة والنفس والحياة في ضوء الإسلام) ص27.

الحلقة الأولى هـــنا 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين