(ما لنا في بناتك من حق)

الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلاما على سيدنا محمد الأمين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، اللهم أسألك السداد والرشاد، وبعد:

فيقول لوط عليه السلام لقومه فيما يحكيه عنه ربنا عز وجل: (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون).

وهذه الآية الكريمة لترسم لنا صورة ذلك المجتمع المهترئ، حيث البيوت بلا رجال، واللذة المجانية الخالية من المسئولية والأعباء، وربما كانت كلمة (أزواجكم) في قوله: (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم)، دالة على أولئك الصنف من الرجال الذين لا يعبئون بمسئولية، ولا يهتمون إلا بشهواتهم، فيعزفون عن أزواجهم اللائي خلقهن الله لهم، تاركين بيوتهم خربة خاوية، هربا من المسئولية، وربما كان المعنى: تتركون النساء اللاتي خلقهن الله ليكنَّ أزواجا لكم، فهن أزواج لهم باعتبار القسمة، لا باعتبار الحقيقة، أي أن النساء أزواج الرجال، كما يقال: النساء شقائق الرجال.

ولو نظرنا إلى قول لوط عليه السلام: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم)، مع قوله: (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم)، لرأينا صدق الداعية في دعوته، فهو وإن كان لعمل قومه من القالين، يحاول انتشالهم من الرذيلة وسخط الله تعالى، بتقديم البديل عن الرجس الذي ينهاهم عنه، وتقريبهم منه، وذلك بعرضه تزويجهم بناته، لما في ذلك من الطهر لهم، وقطع لسبيل المعصية، وإعطائهم الفرصة للتوبة والتطهر من الرجس والمعاصي، وانظر إلى هذه الصورة في مقابل المجتمعات التي تلفظ أصحاب المعاصي، وتغلق أمامهم الأبواب للعودة، وما في ذلك من فتح السبل أمامهم للغي والاستمرار فيما هم فيه من الضلال.

ويأتي يأتي السؤال عن المراد من (الحق) في قولهم: (لقد علمت ما لنا في بناتك من حق)، ووضع هذه الكلمة تحديدا في هذا السياق لمن عجائب القرآن الكريم؛ إذ قد أدت عددًا من المعاني لا يؤديها غيرها:

1. فالحق هو الحظ والنصيب، وفي الحديث أنه أعطى كل ذي حق حقه ولا وصية لوارث، أي حظه ونصيبه الذي فرض له. ومنه حديث عمر، رضي الله عنه لما طعن أوقظ للصلاة، فقال: "الصلاة والله إذن ولا حق"، أي ولا حظ في الإسلام لمن تركها. وعلى ذلك يكون معنى الآية: ما لنا في بناتك من حظ ونصيب، وإنك لتعلم ما نريد.

2. والأحقُّ من الخيل هو الذي لا يَعْرَق، وكأن المعنى أنهن لا يثرن رغبتنا فيهن ولا نعرق لهن، أو كما نقول الآن: لا يسيل لعابنا عليهن.

3. والأحق من الخيل كذلك الذي يضع حافر رجله موضع حافر يده، وكأن المعنى بيان المفارقة وعدم التطابق بين رغباتهم وما يعرضه عليهم من تزويجه بناته بهم، أو كما نقول: لا يركب معنا هذا الأمر، ولذا كان التعقيب: (وإنك لتعلم ما نريد).

4. والحقحقة أن يُسار البعير ويُحمل على ما يتعبه وما لا يطيقه، وإذا حملنا معنى (الحق) في الآية على ذلك، كان المعنى بيان هروبهم من حمل المسئولية والتكاليف والأعباء التي تقع على عاتقهم بسبب الزواج، بينما هم يبحثون عن اللذة المجردة عن المسئولية والتعب، وإلى مثل ذلك أشار الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله؛ حين قال إنه إذا كان التوجه في الحضارة العلمانية نحو اللذة، إذن فالجنس مع الأنثى خطر؛ لأنه يؤدي أولا إلى علاقة مع الآخر بما في ذلك من بعد اجتماعي، بما فيه من الأخذ والعطاء، والأطفال، وما في ذلك من القيم الثابتة غير المتحركة، وبالتالي إذا كان التوجه نحو اللذة فمآل ذلك إلى الشذوذ الجنسي.

5. ويمكن كذلك تفسير الحق هنا بالحرص والرغبة، فإنه يقال: أنا حقيقٌ على كذا، أي حريص عليه، وبه فسر قوله تعالى: (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق)، وكأن معنى الآية في قصة لوط عليه السلام: ما بنا حرصٌ على التزوج ببناتك، وهو بيان لنفي الرغبة فيهن كذلك، يؤيده قوله لهم: (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم).

6. ويمكن تفسيره كذلك بالمطلب والرغبة، من قولهم: أحقَّ القومُ: إذا سمنت مواشيهم، وكأن المعنى: ليس في بناتك ما يشبع رغبتنا ويصرفنا عما نريد.

7. وحقيقة الرجل: ما يلزمه حفظه ومنعه ويحق عليه الدفاع عنه من أهل بيته، وحمل الآية على ذلك يحتمل أمرين:

الأول: ما سبقت الإشارة إليه من هروبهم من حمل التكاليف والمسئولية، والبحث عن اللذة المجردة من الأعباء.

الثاني: يدل على سوء جوارهم، وأنه ليس هناك ما يردعهم عن التعرض لبنات لوط عليه السلام، وكأنهم حين عرض عليهم تزويجهم ببناته قالوا له: ليس هناك ما يدفعنا عن التعرض لبناتك أصلا، لكنك تعلم ما نريده.

ويمكن الجمع بين هذه المعاني كلها من غير تعارض، فسوء أخلاقهم لا يردعهم عن التعرض لبنات لوط، لكنهم لا يفعلون ذلك لرغبتهم في الشذوذ، ولا يجدون في النساء ما يشبع غرائزهم الحيوانية، ولما يجدونه في الشذوذ من لذة مجانية بلا تعب ولا أعباء ولا مسئولية.

8. ومن عجيب هذا اللفظ كذلك أنه كان موجودًا في لغة لوط وإبراهيم عليهما السلام، وهي الأكادية، وهي من اللغات الشقيقة للغة العربية، وبينهما كثير من الألفاظ المشتركة، ولفظ (حق) في هذه اللغة فعل يعني عدة معان، منها: 1. يخلط سوائل 2. يتداخل، وإذا نظرنا إلى هذين المعنيين في سياق الآية، لوجدناهما حاضرين، فالزواج اختلاط وتداخل بين أسرتين، وكأن لوطًا عليه السلام يعرض عليهم نسبه، وهم يردون هذا العرض بطريقة غير لائقة ولا مهذبة.

أخيرًا، ما يظنه البعض من أن لوطًا عليه السلام قد عرض على قومه الزنا ببناته حماية لضيوفه، كلام غير سديد، فقوله: (هن أطهر لكم)، موحٍ بما دعاهم إليه، ومحال أن ينهاهم عن رذيلة إلى رذيلة، بل الرذيلة الأولى هو ناهٍ عنها غير مشارك فيها، أما الثانية فهو داعٍ إليها مشارك فيها بعَرضه وعِرضه. والله أعلى وأعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين