صدى البسمات تأملات في بيتين للشاعر عبدالحكيم الأنيس

مقدمة

الحمد لله الذي علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على ترجمان القرآن، بفعله والبيان، وعلى آله وصحبه السادة الأعيان، الذين بينوا القرآن والسنة أرفع بيان.

أما بعد:

فقد رأيت اهتمام شيخنا العلامة عبدالحكيم الأنيس حفظه الله تعالى بنشر علوم مشايخه الكرام لا سيما نشره لعلم الشيخ العلامة عبدالكريم الدبان، وهذا من وفاء التلميذ لشيخه، فرأيت أن أقتفي أثره في هذه الخصلة الكريمة، فأتحرى تأملات في بعض أشعاره هو، وأسأله أن يسامحني على فقر بضاعتي أمام غنى إبداعه.

لقد عرف الوسط العلمي والثقافي العلامة الأنيس عالمًا مؤلفًا محققًا ناشرًا للعلم، وقليل منهم من يعرف أنه كان شاعرًا رقيقًا مرهف الإحساس رصين العبارة، فقلت في نفسي هذا طريق بكر، وهو ميدان لم يسلك قبلنا، فشمرت عن ساعد الجد في دراسة بيتين للعلامة الأنيس أجاب بهما شيخه العلامة الدبان حين حياه وزملاءه ببيتين من الشعر. وقد كنت درست بيتي العلامة الدبان بمقال أسميته  بسمات في صباح العلم  فلاقى قبولاً من الأوساط العلمية والأكاديمية، واتصل بي كثير من الأفاضل المختصين وغير المختصين بالنقد والأدب، وأتحفونا بملاحظات مفيدة ونقد لنقدنا أغنى المقال، وزاد من ثرائه. فارتأيت أن أخصص هذه المقالة لدراسة بيتي العلامة الأنيس عسى أن تكون هذه المقالة اللبنة الأولى لدراسة موسعة نفتح فيها الباب لدراسة الجوانب الأدبية في شخصية العلامة عبدالحكيم الأنيس. 

وبعد ذكر النص ارتأينا تقسيم تأملاتنا فيه على مبحثين: 

المبحث الأول: عتبات النص سلطنا فيه أنوار البحث على ما يحيط بالنص من تحديد نوعه، وبحره العروضي، ومنشئه، ومناسبة النص.

المبحث الثاني: دراسة النص، وفيه ولجنا عالم النص برحابته، فدرسنا معاني النص، ولغة النص.

وأردفنا المقال بخاتمة فيها أهم النتائج.

يشكل هذا المقال إجابة مستعجلة على ثلاثة أسئلة هي عماد تحليل أي نص من النصوص هي: ماذا أراد الشاعر أن يقول ؟ وكيف قال ذلك ؟ وهل نجح في التعبير عما أراد ؟ 

وتكمن أهمية هذا المقال في مجموعة من الأمور: أولها علو كعب العلامة عبدالحكيم الأنيس في الأوساط العلمية والثقافية، فمنزلة هذا البحث ازدادت بارتباطه بهذه الشخصية المميزة، وثانيها مجهولية الجوانب الشعرية في شخصية العلامة الأنيس، وإذا كان البحث في مجهول زادت أهميته، وثالثها طرافة تناول الجوانب الفنية في عالم.

وبعد فهذه تجليات عشت فيها على عجلة في ظلال تخصصي في تحليل النص لهذه المقطوعة ؛ فإن أصبت فذلك توفيق الله تعالى، وإن كانت الثانية فمن نفسي المجبولة على التقصير ومن الشيطان الذي لا ينفك عن معارضة كل جهد في سبيل الخير. 

النص

قالَ الشَّيْخُ عبدالْكَرِيْمِ الدَّبَانُ:

وَلِيْ إِخْوَةٌ فِي اللهِ قَلْبِي يُحِبُّهُمْ=أَتَوْنِي صَباحَ الْيَوْمِ وَالْكُلُّ بَاسِمُ

فَعبدحَكِيْــــمٍ مُنْعِمٌ ثُمَّ رَافِعٌ=وَعبدجَلِيْـــلٍ هَاتِفٌ ثُمَّ قَـــاسِمُ 

فأجابه على بيتيه تلميذه آنذاك شاعرنا العلامة عبدالحكيم الأنيس:

أحبـك الله حـب الصالحـين كـما=أحـبـبـتـنا يا إمـام العـلـم والأدبِ

لقد جعلت سحابَ الفضلِ ماطرةً=فأظهرتْ دررًا منْ أعجبِ العجبِ

المبحث الأول: عتبات النص

عتبات النص مصطلح يعد من أهم المصطلحات التي دخلت الدراسات الأدبية منذ الثمانينيات، وقد نَظَّرَ له المفكر الفرنسي جيرار جينيت، ويقصد به ما يحيط بالنص من ظروف ونصوص مقتضبة كالعنوان والمؤلف وظروف النص التي قيل فيها، وتعد العتبات الخطوة الأولى للتعارف بين النص والمتلقي، وعلى وفق هذا اللقاء يقرر المتلقي الاستمرار في ولوج عوالم النص أو النكوص والعودة عنه، فهي بالنسبة للنص بمثابة العتبة للبيت. 

وسندرس في ما يأتي مجموعة من عتبات نص شيخنا العلامة الأنيس لنتمكن من إيجاد همزة وصل بين خارج النص وداخله، ونستطيع من خلالها استكناه كوامن النص واستبطان مضامينه. ولم يكن للنص الذي نحن بصدد دراسته عتبة عنوان، وجرى المؤلف في ذلك سيرًا على سَنَنِ شعرائنا القدماء في عدم عنونة نصوصهم، وهذا من ملامح انتماء النص إلى التراث الإبداعي. وقد درسنا في هذه العتبات نوع النص وبحره العروضي ومنشئ النص ونسبة النص إلى منشئه ومناسبة النص.

العتبة الأولى: نوع النص

يعد النص السابق نصًا شعريًا منتميًا إلى الشعر العمودي، وهو مقطوعة نسجت من بيتين شعريين، والمقطوعة نص مقتضب أصغر من القصيدة، وتتكون من أبيات قليلة تتناسب مع سرعة الموقف الذي يمر به الشاعر. فالموقف كان على النحو الآتي :

جاء هؤلاء التلاميذ، فأعجب العلامة الدبان بهم وبطلتهم عليه، لا سيما أنهم مجموعة متميزة من طلبته الأفاضل، فكان جمال الموقف وسعد اللقاء يقتضي سرعة التسجيل، وهذه اللقطة وومضتها لم تسمح للشاعر بنظم قصيدة كاملة، بل كانت مقطوعة مركزة متكونة من بيتين يختزلان الجمال والإحصاء والشعور والأخلاق(1). 

ولما سمع الطلاب هذين البيتين من العلامة الدبان داعب السعد أعطافهم، واهتزت مشاعر الفرح في قلوبهم، فحين رأى شاعرنا عبدالحكيم الأنيس سعادة العلامة الدبان بتلاميذه هاجت فيه الشاعرية صداحةً، فتفتقت موهبته وجادت ببيتين، فكان نظمه مقطوعة أيضًا، وذلك لكونه جوابًا على مقطوعة، فلم يجبه بقصيدة، وهذا من أدب شاعرنا الأنيس.

فاللحظات السريعة لا تمهل الشاعر لاستجماع أنفاسه الشعرية، ولا تسمح له بطول النفس الشعري، فلم يُطِلْ مقطوعته لتناسُب المقطوعات مع لحظات الإثارة السريعة، فأنتج ومضة سريعة اختزلت المشاعر، وأوقفت تلك اللحظات التي لعلها لولا هذين البيتين لتفلتت من ذاكرته.

وهذا ما يبرر شيوع المقطوعات في شعر الفتوحات لكونها مجموعة أحداث متسارعة لا تسمح بطول النفس الشعري لنظم القصائد الطويلة المتعددة الأغراض كما كان الشعر الجاهلي مثلاً، إنما هي لقطات تصورها كاميرا الشاعر بأوجز العبارات(2). 

العتبة الثانية: بحره العروضي

بحور الشعر العربي ستة عشر بحرًا، وموضوع المقطوعة ومزاج اللحظة وطبيعة الموقف هي التي تستجلب الوزن الذي يلائمها عن قصد أو غير قصد من مبدعها. 

ومقطوعة شاعرنا عبدالحكيم الأنيس نظمها على بحر البسيط التام، الذي ينماز بطول تفعيلاته وبالموسيقية العالية، وتفعيلات البسيط هي:

مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ=مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ 

وكانت عروضا البيتين وضرباهما تفعيلتين مخبونتين، أي: جاءتا بحذف الثاني الساكن من فاعلن؛ فتحولت تفعيلة (فَاْعِلُنْ) إلى تفعيلة (فَعِلُنْ)(3) ، فكانت هذه المنظومة عروضها (فَعِلُنْ)، وضربها (فَعِلُنْ). وهذا هو النوع الأول من البحر البسيط(4).

أَحَبَّـكَ اللهُ حُـبَّ الصَّالِحـينَ كَـما=أَحْـبَـبْـتَـنا يا إِمـامَ الْعِـلْـمِ وَالْأَدَبِ

مُتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ=مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ 

والتفعيلة الأولى أصابها الخبن، إذ حذف منها الثاني الساكن، فتحولت من (مُسْتَفْعِلُنْ) إلى (مُتَفْعِلُنْ).

لَقَدْ جَعَلْتَ سَحابَ الْفَضْلِ ماطِرَةً= فَأَظْهَرَتْ دُرَرًا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ

مُتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ=مُتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ 

أما في البيت الثاني فكل تفعيلاته دخلها الخبن إلا تفعيلتين الثالثة من الشطر الأول والثالثة من الشطر الثاني، وأحسن إذ أتمهما ولم يُدْخِلْ عليهما زحافًا، إذ إن الزحاف في مثل هذين الموضعين قبيح جدًا، ويعمل اختلالاً في الموسيقى الشعرية للبيت، كما هو معلوم لدى العروضيين. 

والبيت الأول في المقطوعة غير مصرع، والتصريع هو تلاؤم قافية الشطر الأول مع قافية الشطر الثاني، إذ ذكر أهل العروض أن التصريع هو أن ((يجانس الشاعر بين شطري البيت الواحد في مطلع القصيدة، أي: يجعل العروض مشبهًا للضرب وزنًا وقافية))(5). والتصريع هو الغالب في منهج الشعراء العرب في قصائدهم العمودية.

المطلب الثاني: المنشئ

المبدع الذي أنتج هذا النص هو شيخنا الكريم الفذ العلامة عبدالحكيم الأنيس حفظه الله تعالى، وسنقتصر من ترجمته على ما يعيننا على فهم النص، فليس هدفنا الترجمة المطولة له، ومعلوم أن دأبَ أهل التراجم أن يطيلوا في ترجمة المغمور، ويقصروا في ترجمة المشهور، وعند أهل اللغة: المُعَرَّفُ لا يُعَرَّفُ. فنقول:

لقد كان لشيخنا العلامة عبدالحكيم الأنيس حفظه الله تعالى أثر كبير في الحركة العلمية والثقافية في العراق وكثير من البلاد العربية والإسلامية، وتنوعت آثاره الواضحة على أشكال مختلفة وأنماط متعددة، فهو المحقق المدقق في خفايا النصوص، وهو المؤلف المتفنن في طرائق التأليف، وهو المدرس الحريص على تلاميذه الذي لا ينقطع عن إرسال فوائده إليهم، وهو صاحب الدروس المتنوعة في التلفزيون والإذاعة والإنترنت، الحريص على استثمار الوقت أفضل استثمار، وهو صاحب القلم السيال الذي لم ينفق ساعة في غير طاعة، تدلنا على ذلك كثرة مؤلفاته النافعة وتحقيقاته الرائعة ودروسه الغنية بالعلم والأدب، وقد سخر مناصبه التي تزينت به لخدمة كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما الخلق الكريم والإيمان العميق فقد بلغ فيه شأوًا بعيدًا يشهد بهما كل من كان له أدنى اتصال به. ومن أراد الاستزادة من ترجمة العلامة عبدالحكيم الأنيس فعليه

المطلب الثالث: نسبة النص إلى منشئه 

إنَّ النصَّ الشعري الفذ الذي نحن بصدد دراسته أوصله إلينا مؤلفُهُ شاعرنا عبدالحكيم الأنيس حفظه الله تعالى، منه إلى تلميذه، وتراسلا وتراجعا بشأنه، وهذه أعلى درجات ثبوت نسبة النص لمؤلفه.

المطلب الرابع: مناسبة النص

إن السياق الاجتماعي للنص يعد عتبة مهمة من عتبات النص، وهي عتبة تلقي الضوء على بعض مكامن النص لا سيما غير المقولة منها، وتوحي بالترابط بين النص المقول والظروف الزمكانية التي أحاطت به.

قال الشيخ الدبان رحمه الله بيتين لمجموعة من تلاميذه متميزة(6)، وكان ذلك في سنة 1984 م، وهما قوله:

وَلِيْ إِخْوَةٌ فِي اللهِ قَلْبِي يُحِبُّهُمْ=أَتَوْنِي صَباحَ الْيَوْمِ وَالْكُلُّ بَاسِمُ

فَعـبد حَكِيْــــمٍ مُنْعِـمٌ ثُـمَّ رَافِعٌ=وَعبد جَلِيْـــلٍ هَاتِفٌ ثُمَّ قَـــاسِمُ 

وكان الشيخ قد فَرِحَ بهذه المجموعة، وقام الشاعر عبدالحكيم الأنيس بجواب البيتين السابقين بهذين البيتين اللذين نقوم بدراستهما.

أَحَبَّـكَ اللهُ حُـبَّ الصَّالِحـينَ كَـما=أَحْـبَـبْـتَـنا يا إِمـامَ الْـعِـلْـمِ وَالْأَدَبِ

لَقَدْ جَعَلْتَ سَحابَ الْفَضْلِ ماطِرَةً=فَأَظْهَرَتْ دُرَرًا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ

المبحث الثاني: دراسة النص

بعد اطلاعي على بعض عتبات النص وجدت أن النص بكل ما استبطته من خفاياه من خلال العتبات يستحق التلقي وحري بالدراسة، فقررت أن ألج في عالم النص، إذ العتبات هي التي تشي ببعض من زوايا النص، وتعطي تصورًا عامًّا عنه، وتنم عن خبايا تجعل القارئ يأخذ موقفًا من النص إما بالإيجاب، فيقرر الخوض في سبحات النص، أو بالسلب فيحجم عنه، وينثني عن تلقيه؛ وأنا بعد هذه الدعوة المغرية التي وجهتها لي عتبات النص أجدني مضطرًّا للولوج في عالمه والنهل من منهله العذب.

المطلب الأول: معاني النص 

تنطوي النصوص بصورة عامة على جانبين هما عماد كل نص المعاني والألفاظ، وجدلية اللفظ والمعنى وتغليب أحدهما على الآخر في الأهمية جدلية قديمة في تراثنا الأدبي والنقدي، ولسنا هنا بصدد تحقيقها وحسم أمرها، بل جل ما نراه أن النص يطير بجناحين لا غنى له عنهما، ومن دونهما لا يوجد نص، ومن دون أحدهما يتعثر في طيرانه في عالم الإبداع. وفي نص الشاعر عبدالحكيم الأنيس الذي نحن بصدد دراسته تتجلى مجموعة من المعاني، ولا غرو في ذلك، فالشاعر ذو باع في العلم والثقافة يفوق باعه في الشعر والأدب. ومن معاني النص هذه:

أولاً: دعاء التلميذ لشيخه

وهذا معنى لطيف يجب أن يسود في ثقافتنا المعاصرة التي بدأت تفقد بعض بريق هذه المعاني السامية، والدعاء للشيخ يعد جزءًا من الوفاء له لكونه هو سبب تكوين التلميذ، والتلميذ حسنة من حسنات شيخه. وقد كان شاعرنا الأنيس في أعلى درجات الوفاء لشيوخه.

ثانيًا: الحب

إن الحب ليس طارئًا على هذا الكون، بل هو الرابط الجوهري المتأصل فيه الذي يصل العباد الصالحين بربهم الله تعالى، شيوخًا كانوا أو تلاميذ؛ ومن جهة ثانية هذا الحب هو الرابط الذي يجب أن يسود بين التلاميذ وشيخهم، ولا ينبغي أن تطغى العلاقة العقلية العلمية على الرابط القلبي. 

ثالثًا: تمجيد التلاميذ لشيخهم

مجد الشاعر عبدالحكيم الأنيس شيخه العلامة عبدالكريم الدبان، وذكر في مدحه أنه إمام العلم والأدب، وتمجيد الشاعر لشيخه يقع من ضمن عرفانه بالجميل على أعظم الهدايا التي منحها الشيخ ألا وهي العلم. ومن جهة ثانية فإن مدح الشيخ مفخرة لتلميذه، إذ هو سليل تلك الدوحة العلمية والأدبية الوارفة الظلال، فهو مفخرة لهما معًا، ومن جهة ثالثة استحب العلماء مدح الطالب لشيخه استمطارًا لعلمه وفوائده الثرة التي يستدرها المدح، فيجود بها الشيخ على تلاميذه.

رابعًا: بيان أثر الشيخ في تلاميذه

بين الشاعر مدى تأثير العلامة الدبان في تلاميذه، وذلك عن طريق تصوير فضله سحابًا يمطر، فيستخرج في تلاميذه عجائب من تأثير فضله الآتي لهم بكل خير ورحمة، وبذلك يشعر العالم أن تعبه آتى أكله، ولم يَضِعْ، وأثمر عجائب من العلم والتربية والإيمان، الأمر الذي يحفزه على الإكثار من العطاء المنهمر. 

خامسًا: إظهار إبداع الطلبة أمام شيخهم

يعد هذان البيتان من الشعر حصيلة إبداع الشاعر الذي يُرِيْ شيخه بعض إبداعه ليسعد به، ويكافئ به شيخه بموهبته، ويسخر موهبته لمدح شيخه ونشر فضائله. والطالب دلالة واضحة على علم شيخه وتربيته وإيمانه، ونحن لم نرَ العلامة الدبان رحمه الله، ولكننا عرفناه من خلال تلاميذه، وهم مشايخنا الذين دلونا عليه.

سادسًا: العمل بالسنة 

أخبر الشيخ طلابه من خلال البيتين الأولين بحبه لهم، وهذا عمل بالسنة بأن من أحب أخاه في الله فليخبره، وذلك مما يزيد من جو الألفة بين الإخوة ويكثر إفادة بعضهم من البعض الآخر(7). فأجابه الشاعر عبدالحكيم الأنيس بجواب من السنة، فعن أنس رضي الله عنه قال: مر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل، فقال رجل: إني لأحبه في الله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أأعلمته ؟ قال: لا. قال: فأعلمه. قال: فلقيت الرجل، فأعلمته، فقال: ((أحبك الله الذي أحببتني له))(8). 

المطلب الثاني: لغة النص

إن أسلوب الشاعر في النص يكاد يكون أسلوبين: ففي البيت الأول من النص لغة مباشرة قليلة الإيحاء والرمز، وذلك لكون الشاعر ألزم نفسه بإجابة كلمة الحب في الله التي أطلقها شيخه في بيتي العلامة الدبان، فكان لا بد له أن يتماهى مع الحديث، فيجيب شيخه بالدعاء بأن يحبه الله تعالى، وبذلك وقع في الأَسْلَبَةِ، ونعني بها فرض نمط إبداعي على المبدع يصادر حريته في التعبير نتيجة إلزام نفسه بهذا النمط، فضلاً عن أن النص ابن لحظته التي ولدته، ولم يحصل على نصيبه من الصنعة مما يمكن أن يتوافر في إبداع شاعر يمتلك زمام اللغة امتلاكًا فريدًا، وما يمكن أن يحظى به نص قائم على الروية ومداومة النظر، وتلك البساطة والتلقائية هي التي منحته شيئًا من القرب من المتلقي.

أما البيت الثاني فقد تحرر فيه الشاعر من تلك الأسلبة بعدما أكمل جواب شيخه على الحب، إذ حلق فيه الشاعر الأنيس بين السحاب الماطر لتبتل كلماته بماء الشاعرية التي كاد يخلو منها بيته الأول بسبب ما ذكرنا، فقد حلق خلف الصورة الشعرية الطائرة بين الغمام لتنشر الفضل من السماء، وكأنك ترى حبات مطر الفضل تتساقط فيه من النضارة، وغاص فيه لاكتشاف مكامن الدرر العجيبة في نفاستها وغلو ثمنها. 

وقد احتوى النص لمحات لغوية جميلة ارتأينا دراسته على مستويات دراسة اللغة على النحو الآتي:

المستوى الصوتي 

يعد المستوى الصوتي حجر الزاوية في كل نص وقد عرف ابن جني اللغة بأنها: ((ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم))(9) ، وفي هذا تعبير عن الطبيعة الصوتية للغة، وما الكتابة إلا تعبير صوري عما كانت تمثله الأصوات. 

لقد تضمن النص مجموعة من الأصوات المتناغمة المنسجمة التي يأخذ بعضها بزمام بعض. وقد شاع في المقطوعة صوت الباء شيوعًا واضحًا، إذ تكرر عشر مرات في البيتين، مما يجعلنا نتساءل: هل كان هذا الشيوع طبيعيًا ؟ وهل قصده الشاعر؟ وهل لهذا الشيوع تَعَلُّقٌ بالدلالة؟

وللجواب على هذه الأسئلة نقول: إن الصوت المفرد لا يحمل بنفسه دلالة، ولكن توزيعه داخل النص بمثل هذا الشكل يجعلنا نتساءل عن سبب تكراره. 

إن مخرج صوت الباء هو الشفتان، فهو من الأصوات التي تخرج من الشفتين (شفوي – شفوي)، ينتج بإطباق الشفتين العليا على السفلى لينقطع الصوت بانطباقهما، وينطلق نتيجة انفتاحهما صوت القلقلة التي تحدد هوية الصوت، وكونه يخرج من الشفتين يجعله من أسهل الأصوات في النطق، ولهذا جاءت الأصوات الشفوية في اللغة العربية في الكلمتين المعبرتين عن الوالدين الأم والأب اللذين هما أول من تتفتق عنهما عينا الطفل، والباء كان في اللفظ المعبر عن الأب، والذي يبدو لي أن شيوع صوت الباء جاء تلاؤمًا مع خطاب الشاعر الأنيس لأبيه العلمي وشيخه العلامة الدبان لكون المقطوعة كلها خطابًا له ودعاء له. وقد يكون وراء شيوع الباء أنها في اسم العلامة عبد الكريم الدبان مكررة مرتين، وقد يكون وراء شيوع الباء أن بعض الناس يلفظ اسمه بتشديد باء الدبان، ويتصدى الشاعر عبدالحكيم الأنيس لتصحيح اسم شيخه، لبيان أن الدبان بتخفيف الباء لا بتشديدها.

ومعلوم لدى علماء علم النفس اللغوي أن هذا الأمر لربما لم يَدُرْ في خلد الشاعر حين كتب النص، فقد جاء عفو الخاطر، ولكن الناقد قد ينطق النص ما لم يدركه المبدع نفسه من نصه، وقد أُثِرَ عن المتنبي أنه اطلع على شرح ابن جني لشعره، فقال: ابن جني أدرى بشعري مني. وذلك راجع إلى أن الإبداع حالة شعورية مرتبطة باللاشعور، ولا تحكمها العملية العقلية. فشاع صوت الباء في النص لشيوع عاطفة أبوة العلم في وجدان الشاعر الأنيس، فانعكست في شعره من دون شعوره. 

المستوى الصرفي

استعمل الشاعر عبدالحكيم الأنيس المصدر والفعل الماضي استعمالاً طاغيًا على النص، وهذا من حذقه في استعمال الأوزان الصرفية وتكثيفها في النص، بحيث كانت المصادر والأفعال الماضية بنًى مهيمنة على النص واضحة فيه، إذ حوى النص خمسة مصادر هي (حُّب، العِلْم، الأَدَب، الفَضْل، العَجَب)، ليعبر الشاعر من خلال هذه المصادر عن طهارة اللقاء بما حواه من هذه المفاهيم الثابتة فيه ثبوت المصادر التي لا تدل على زمن ولا على فاعل معين، فقد شاعت هذه المفاهيم بين جميع من حضر المجلس من شيخ وتلامذة، واستقرت هذه المفاهيم السامية في خلدهم وثبتت. ومن اللافت أن هذه المصادر كلها ثلاثية الأحرف، فكثفت معانيها بأوجز لفظ، وكلها جاءت معارفَ، لتلافي الضبابية التي تعكسها المفاهيم غير المعرفة. 

وأتى بالنائب عن المفعول المطلق، ولم يأتِ بالمفعول المطلق نفسه، لكون المستعمل المشهور من فعل الحب هو الثلاثي المزيد بالهمزة (أَحَبَّ)، ولكن المصدر المستعمل المشهور من الحب هو مصدر الثلاثي المجرد (حُبٌّ)، فاستعمل المشهور من الفعل الماضي، واستعمل المشهور من المصدر، فاضطر إلى استعمال اسم المصدر مراعاة لشهرة الكلمة، وبذلك انزاح انزياحًا قسريًا عن التعبير الصفري.

وضمن الشاعر الأنيس النص أربعة أفعال ماضية (أَحَبَّ مرتين، جَعَل، أَظْهَر)، وكلها تدل على أنه ثبت حب الشيخ لهم، وأمطر عليهم من الفضل ما أظهر منهم الجواهر واليواقيت، فعبر الشاعر الأنيس عن ثبوت هذه الأحداث بالتعبير عنها بالفعل الماضي الذي يدل بصيغته وزمنه على أن هذه الأمور قد حصلت وثبتت، وحصلنا على نتيجتها. ولا يَنِدُّ عنها إلا الفعل الماضي الأول، إذ هو وإن كان مصاغًا على بنية الفعل الماضي إلا أن زمنه المستقبل لكونه خرج إلى معنى الدعاء، ومع ذلك فقد شكل مع بقية الأفعال نسقًا من أفعال ماضية أصبحت ظاهرة مهيمنة واضحة في النص.

ومن جهة دلالية نلاحظ شيوع جذر (حبب) في النص بهذين التنوعين الصرفيين المهيمنين على النص، إذ ورد هذا الجذر فعلاً ماضيًا مرتين ومصدرًا مرة واحدة، فجمع الثبات من طرفيه، ثبات الفعل الماضي وثبات اسمية المصدر. وذلك ما يجعل دلالة الحب هي الدلالة الشائعة في النص، إذ وردت في البيت الأول ثلاث مرات لتشكل نسبة 30 % من عدد كلمات البيت، فشيوع هذا الجذر متلائم مع جو الحب والألفة الذي امتلأ به النص، إذ الحب هو العلاقة بين الله تعالى وعباده، وبين العباد أنفسهم: بين الشاعر الأنيس وشيخه ورفاقه التلاميذ، كما مرَّ في معاني البيتين. 

المستوى النحوي 

وقد تضمنت تراكيب النص مجموعة مهمة من الأساليب النحوية التي تشعر بالإبداع منها:

وقد شاعت الجملة الفعلية الماضوية في النص فهي أعمدة النص ودعاماته، وقد شكلت الجمل الأربع زوجين متناغمين مثنى مثنى:

فالجملتان الأوليان كانت الثانية (أحببتنا) مشبهة بالأولى (أحبك الله) مرتبطة بها بأداة التشبيه (الكاف) الداخل على (ما) المصدرية التي تشكل مع الفعل بعدها مصدرًا مؤولاً في محل جر بحرف الجر (الكاف). 

أَحَبَّـكَ اللهُ حُـبَّ الصَّالِحـينَ كَـما=أَحْـبَـبْـتَـنا يا إِمـامَ الْـعِـلْـمِ وَالْأَدَبِ

والجملتان الأخريان ارتبطت الثالثة (لقد جعلت) بالرابعة (أظهرت دررًا) عن طريق الاستئناف بحرف الاستئناف (الفاء). 

لَقَدْ جَعَلْتَ سَحابَ الْفَضْلِ ماطِرَةً=فَأَظْهَرَتْ دُرَرًا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ

وارتبطت الجملتان الأخريان الثالثة والرابعة بالجملتين الأوليين الأولى والثانية ارتباطًا معنويًا، فالأخريان تعليل للأوليين، إذ إن الدعاء في الأوليين معلل بالجملتين الأخريين، فكأن الشاعر قال: أحبك الله يا إمامنا، لأنك أرسلت سحاب الفضل، فأخرجت هذه الدرر. 

ونلاحظ من كل ذلك أن الشاعرعبدالحكيم الأنيس قد استعمل بحرفية عالية آليات السبك والحبك لإنتاج نص متماسك بالآليات المعنوية واللفظية، على ما هو معروف عند علماء (نحو النص)، وهو علم يبحث في النحو على أنه علم يدرس النص بصفته كلاً متكاملاً، ويبحث وجوه الربط المعنوية واللفظية بين الجمل المختلفة للنص، وينطلق من إسار الجملة.

وقد استعمل صيغة الماضي للدعاء، وفي ذلك تفاؤل وحسن ظن بالله أنه سيستجيب، فكأنَّ الأمر قد تم وانقضى، وأحبه الله تعالى.

وجاء النائب عن المفعول المطلق للتشبيه، وفيها أضيف المصدر إلى مفعوله لا إلى فاعله، فكأنه قال: أحبك الله حبه للصالحين. 

المستوى البلاغي 

يعد المستوى البلاغي من أهم المستويات التي يدرسها الناقد عند دراسة النص الفني، إذ إن البلاغة تمثل الانزياح عن التعبير الصفري، وتمثل التفنن في القول بما يحيد بالتعبير عن الرتابة. وقد تضمن نص الشاعر عبدالحكيم الأنيس أفانين من البلاغة متنوعة على قصره، وكان من أبرز هذه الأفانين:

التناص

ونقصد به إدخال المبدع نصًا آخر في نصه، بحيث يذوب في نصه ويكون جزءًا منه، وقد يدخل في نصه قطعة من نص آخر، وقد يدخل نصًّا كاملاً، كما في نص شاعرنا الأنيس، وقد يدخل اللفظ كما هو، وقد يدخله مع شيء من التغيير في لفظه مع بقاء المعنى نفسه، وهذا ما كان شائعًا عند علماء البلاغة القدماء بمصطلحي الاقتباس والتضمين. 

وقد تناصَّ الشاعر الأنيس مع الحديث النبوي الشريف، ((عن أنس رضي الله عنه قال: مَرَّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ، فقال رجلٌ: إني لأحبه في الله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أأعلمته ؟ قال: لا. قال: فأعلمه. قال: فلقيت الرجل، فأعلمته، فقال: أحبك الله الذي أحببتني له))(10). وهذا التناص متأتٍّ من كون بيتي العلامة الدبان رحمه الله جاء فيهما أنه جهر لهم بحبه، فاستدعى جوابًا من الشاعر الأنيس موافقًا للجواب الوارد في الحديث السابق على ما جهر به من حبه لهم. ونتيجة لكثرة تكرار هذه السنة بين الأحباب، ولكثرة دراسة الشاعر للحديث النبوي الشريف، فقد اختلطت روحه بالحديث دراسة وممارسة بحيث لم يستطع إلا التناص إراديًا أو لا إراديًا مع النص الحديثي الشريف. والشاعر صاغ عبارة السنة صياغة شعرية، مع شيء من التصرف في النص بما يتلاءم مع الوزن الشعري، مما يمكن أن يطلق على صنيعه أنه تضمين للحديث النبوي.

الاستعارة

أعطى الشاعر عبدالحكيم الأنيس في البيت الثاني للفضل سحائب فأنت تتخيل الفضل على شكل سحائب يرسلها العلامة الدبان، وزاد في ذلك أنها سحائب ماطرة، وهذا إمعان في تصوير فضل العلامة الدبان على أنه كالغيث الذي ينزل بالأرض، فيخرج منها نبتًا من أعجب العجب، وذلك هو الفضل الحقيقي إنه الفضل الذي يخرج الفضل، كما تخرج السحائب النبات العجيب من الأرض، وما هذه الدرر غير أولئك الكرام العظماء الذين أنجبتهم مواهبه العلمية والأدبية. 

لَقَدْ جَعَلْتَ سَحابَ الْفَضْلِ ماطِرَةً=فَأَظْهَرَتْ دُرَرًا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ

نسب الشاعر إلى الفضل سحابًا، وشبه فضل العلامة الدبان بالسحاب، لوجود جامع بينهما، وهو الكثرة والمنفعة والخير، ومن السحاب ما هو ماطر، ومنه ما هو خُلَّبٌ، فأزال هذا الاحتمال بنسبة المطر إلى هذا السحاب، فقال:(ماطرًا)، فحين أمطر أنجبت تلك الأرض خيرًا كثيرًا، مستثمرًا ما سكن في الذاكرة الجمعية من صورة نمطية تربط بين المطر والخير، لكن هذه السحب لم تنجب إلا دررًا عجيبة غاية العجب، وهم هؤلاء التلاميذ الذين ملأت علومهم الدنيا. 

الخاتمة 

في ختام هذه الرحلة الماتعة في عالم هذا النص رسا البحث على ساحل مجموعة من النتائج أهمها: 

1- استعمال الباحث لكل هذه الأدوات الإبداعية في الأصوات والبنى والتراكيب يشي بعبقرية النص.

2- شيوع صوت الباء مناسبة لخطاب الأب العلمي (الشيخ).

3- عمَّ النص مجموعة من بنى المصادر والأفعال الماضية، لثبات المفاهيم والأفكار والدعاء.

4- النص جمع ثنائيات من العجب أن تجتمع في نص واحد، فقد زاوج بين الدين والشعر، والبساطة والعمق، والعلم والأدب، والعقل والروح، والقوة والجمال.

5- نوصي بأن تدرس الشعرية في شخصية العلامة عبدالحكيم الأنيس، وذلك بصفته شاعرًا مجيدًا مبدعًا ملتزمًا. 

وهكذا عشنا في سبحات هذا النص نتفيأ ظلاله، وننهل من مورده الصافي، ونبرز شيئًا من إبداع هذا العلم الشاهق الشاعر العلامة عبدالحكيم الأنيس، ونضع إبداعه بين أيدي المختصين، لينتبهوا إلى ملامح مجهولة عن هذا الشاعر المبدع. 

 ... لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70].

الحواشي:

1 ينظر بسمات في صباح العلم: 3 – 4.

2 ينظر شعر الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام: 198.

3 ينظر علم العروض والقافية: 46.

4 العروض لابن جني: 5.

5 علم العروض والقافية: 34.

6 للاستزادة ينظر بحثنا السابق بسمات في صباح العلم: 6.

7 ينظر مقالنا السابق بسمات في صباح العلم: 10.

8 رواه النسائي في الكبرى: 6 / 54 برقم (10010)، والحاكم: 6 / 155، وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وشاهده حديث المقدام بن معدي كرب، وعلق الذهبي في التلخيص، فقال: صحيح.

9 الخصائص: 1 / 333.

10 رواه النسائي في الكبرى: 6 / 54 برقم (10010)، والحاكم: 6 / 155، وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وشاهده حديث المقدام بن معدي كرب، وعلق الذهبي في التلخيص، فقال: صحيح.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين