ما معجزة الرسول محمد ﷺ الأولى والرئيسية؟ (3)

آثار بناء "الإنسان المعجز" = "الصحابي" في واقع الحياة

لقد أنتج البناء السابق الذي عرضنا جوانبه في مجال القلب والعقل والجسم "إنساناً معجزاً"، وهو الذي تجسد في شخصية "الصحابي" أولاً، ثم في شخصية "التابعي" ثانياً، ثم في شخصية "تابع التابعي" ثالثاً إلخ.....، وسنعرض لآثار ذلك البناء المعجز في المجال العقلي والقلبي والجسمي بشكل مختصر:

1 ـ آثار "الإعجاز العقلي" عند الصحابي:

ليس من شك بأن أبرز ما يدل على "الإعجاز العقلي" هو الإبداع في مجال العلوم، وقد تجلى ذلك في عدة أمور:

أ ـ العلوم المبتكرة في المجال الديني.

ب ـ العلوم المبتكرة في المجال الدنيوي.

ت ـ اعتماد التجريب كأصل في بناء العلوم.

ث ـ التفاعل مع الحضارات الأخرى وأخذ المفيد منها وما يتفق مع أصول ديننا.

أ ـ العلوم المبتكرة في المجال الديني:

1 ـ القرآن الكريم:

ابتدأ الاهتمام بالقرآن الكريم منذ وقت حروب الردة، وحدثت واقعة مقتل القراء الحافظين للقرآن الكريم، وخاف أبو بكر الصديق رضي الله عنه من ضياع القرآن، فجمعوا القرآن بين دفتي مصحف واحد، وانتقوا أرقى المعايير العلمية والموضوعية التي يمكن أن يصل إليها البشر في هذا الجمع، فاشترطوا وجود مسلمين عدلين لقبول أية آية، ثم وضعوا النسخة المجموعة وهي "المصحف الأم" عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.

ثم نشأت عشرات العلوم المرتبطة بالقرآن الكريم من أجل حفظه من التحريف واللحن، فجاءت علوم التنقيط، ثم التشكيل، ثم علوم المكي والمدني، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، ثم علوم التجويد، ثم علم القراءات، ثم جاء تفسير القرآن الكريم والمدارس المرتبطة به، ثم جاء إعجاز القرآن الكريم والنظريات حوله إلخ........

2 ـ الحديث الشريف:

حرص المسلمون على تدوين الحديث الشريف، وأقوال الرسول ﷺ وأفعاله، واتبعوا في ذلك أرقى المعايير العلمية، وأدقها في الوصول إلى صحيح أقوال الرسول ﷺ وأفعاله وتقريراته.

وابتكروا من أجل ذلك علوم الإسناد، وتكونت علوم الجرح والتعديل، وعلوم الرواية والدراية، وعلوم السند والمتن، وكتبت بعد ذلك الصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم، فكان هناك صحيح البخاري ومسلم وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل وسنن أبي داوود والنسائي إلخ....، ووضعت أدق المعايير من أجل تمييز الصحيح من الضعيف من الموضوع، فكان الحديث الصحيح والحسن والمعلّل والمنقطع والمتصل إلخ....، وحديث الآحاد، والحديث المتواتر، وغيرها من المصطلحات التي تخدم هذا العلم.

3 ـ اللغة العربية:

حرص المسلمون على حفظ اللسان العربي من اللحن والخطأ، فكانت علوم النحو والصرف والإعراب، وجمع ألفاظ اللغة في المعاجم، ثم جاء ابتكار علوم البلاغة والبيان والبديع من أجل وضع أصول تذوق النص الأدبي، ثم جاءت نظريات الإعجاز.

4 ـ الفقه وأصوله:

تكون الفقه ومدارسه من خلال إجابات العلماء على أسئلة الناس وفتاويهم، فنشأت المذاهب الفقهية، ورسخت منها أربعة هي: مذاهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وغيرها كثير لكن هذه المذاهب هي التي رسخت وكتب لها القبول والانتشار في الأمة.

وكانت هذه المذاهب تمثل جهداً عقلياً عظيماً في تقديم حلول وفتاوى لمشاكل الناس ليبقوا في دائرة الإسلام، وفي دائرة طاعة الله والاقتداء بالرسول ﷺ.

ثم جاء علم أصول الفقه الذي ابتكره الشافعي وتطور بعد ذلك إلى علم المقاصد، ثم تطور ودرس تصرفات الرسول ﷺ وقسمها إلى عدة أقسام، على يد الإمام القرافي، فقسمها إلى تصرفات بالبلاغ، وبالقضاء، وبالفتوى، وبالإمامة.

وقد استفاد علماء الفقه من علم أصول الفقه وتطوراته في تقعيد الأحكام واستنباطها.

ليس من شك بأن ابتكار هذه العلوم يدل على أقصى درجات الرقي العقلي، وقمة الوعي والفهم.

ب ـ العلوم المبتكرة في المجال الدنيوي:

ولم يقف ابتكار العلوم عند المجال الديني فقط وإنما تعداه إلى المجال الدنيوي، فقد ابتكر المسلمون علوماً في مختلف المجالات مثل: الطب والصيدلة والهندسة والزراعة والجبر والرياضيات والكيمياء إلخ.......، وعدلوا كثيراً من العلوم وبخاصة في مجال الفلك وغيره، وقد سردت كثير من الموسوعات الإسلامية والغربية دور المسلمين في ابتكار العلوم الدنيوية، وقد تحدثت عن ذلك في بعض كتبي الأخرى، وسأفصل ذلك في دراسة قادمة إن شاء الله.

ج ـ اعتماد التجربة كأصل في بناء العلوم:

لقد اعتمد المسلمون التجربة كأصل في حياتهم العلمية، وأدركوا أهمية التجربة وقيمتها العلمية نتيجة وعي قيمة الأسباب في حركة الكون وانتظام هذه الحركة، وهذا الوعي هو الذي يبني الحضارات، وقد نقلت أوروبا اعتماد التجربة في العلوم من الأندلس عن طريق فرانسيس بيكون (1561-1626)، وهذا النقل هو الأساس الذي بنت عليه الحضارة الغربية كيانها، ولولا هذا النقل لمبدأ التجريب لما قامت الحضارة الغربية المعاصرة.

د ـ التفاعل مع الحضارات الآخرى وأخذ المفيد منها وما يتفق مع أصول ديننا:

لقد احتك المسلمون عندما خرجوا من الجزيرة العربية بحضارات متعددة ذات إنجازات كبيرة في مجالات متعددة: علمية، وفلسفية، وأدبية، وطبية، واجتماعية، واقتصادية، وعمرانية إلخ....، فلم تبتلعهم هذه الحضارات ولم يقفوا منها موقفاً سلبياً بشكل كلي، بل تفاعلوا معها وأخذوا منها ما يفيدهم وما يتفق مع مبادئ دينهم، وطوروا بعضها الآخر، وقد فعلوا ذلك مع كل الحضارات التي سبقتهم كالحضارة اليونانية والرومانية والهندية والفارسية، ولا مجال لتفصيل صورة التفاعل والاستفادة، بل سيكون ذلك في مقام آخر.

2 ـ آثار "الإعجاز القلبي" في الصحابة ومن بعدهم:

بنى القرآن الكريم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فكانوا ذوي نفسيات معجزة، ويدل على ذلك التضحية بالمال والنفس، وهذه التضحية هي عماد بناء الحضارات كما يقول توينبي، ويؤكد أن بخل الطبقة الغنية واستئثارها بالأموال هو الذي يهدم الحضارات، وجاء هذا مصدقاً لقول الله تعالى:"وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم"(سورة محمد،الآية 38).

وجاءت الأوقاف في التاريخ لتمثل مظهراً كبيراً من العطاء والكرم، فقد ذكر المؤرخون أن ثلث ثروة العالم الإسلامي كانت أوقافاً من مختلف الأصناف من زروع ومصانع وأبنية وأموال وحيوانات إلخ....، ومما يؤكد ذلك أن ثلث مدينة الجزائر كانت أوقافاً عندما احتلتها فرنسا عام 1830.

3 ـ آثار "الإعجاز الجسدي" في الصحابة ومن بعدهم:

يرمل المسلم في بعض أشواط الطواف عند أدائه مناسك الحج والعمرة، والأصل في هذا الحكم هو نفي ضعف أجسام الصحابة الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، لأنه شاع في أوساط أهل مكة أن المهاجرين قد أهلكتهم الحمى، فأراد الرسول ﷺ أن يثبت لهم صحة أجسام المهاجرين بهذا الرمل في أشواط الطواف، لأن مشركي مكة كانوا يراقبون المسلمين أثناء طوافهم.

كما أن العمران الواسع الذي اتسمت به الحضارة الإسلامية في كل مجالات الزراعة والصناعة والطب والصيدلة، تدل على الاهتمام بطعام الجسد وصحته، كما أن مؤسسة الحسبة قامت لتراقب الأسواق والطرقات وتحقق النظافة فيها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين