الإنسانية : بين الحضارة والتجارة 

ونحن نراقب الحرب العالمية الشرسة الدائرة بين سلاح الطب العالمي وبين وباء ( Covid – 19)، ملاحظين التفاوت في بذل الخدمات الطبية في هذه المعركة بين دولٍ الإنسانيةُ فيها أرقى من أخرى، تقفز إلى الذاكرة صور من المسؤولية الإنسانية الراقية التي قرأنا عنها في كتب التاريخ، والتي كانت أبعد ما يكون عن (الاستغلالية) والهمجية التي تمثلها اليوم بأبشع صورها شركات التأمين الصحي التي تهتم بالمال أكثر من اهتمامها بالإنسان. 

وإذا علمنا أن الحضارة إنما هي «بذل المجهود من أجل تكميل النوع الإنساني وتحقيق التقدم في أحوال الإنسانية وأحوال العالم الواقعي». الأمر الذي يقتضي فعل ما هو مميز خدمة لبني البشر وللإنسانية، علمنا كم أن عالم اليوم بعيد كل البعد عن هذه المعاني الإنسانية الحضارية، على تفاوت بين منطقة وأخرى، وان مشاعر الإنسانية عند عالم اليوم لا تعدو كونها وسائل لتحقيق مصالح تخدم قضايا الصراع الدولي القائم في العالم اليوم.

هذا الاستغلال المشين الذي نراه اليوم للقيم في سوق النخاسة السياسية والعسكرية، لم تعرفه البشرية قديما، وعلى الخصوص زمن عصر الحضارة الإسلامية، على الرغم من الحروب الطاحنة التي كانت تشتعل هنا وهناك.

مشافي قرطبة النموذجية

ففي القرن الثامن ميلادي، مثلا، شهدت بلاد العرب والأندلس نهضة حضارية مميزة طالت غالب جوانب الإنسانية، ومنها الطبابة، حيث ظهرت المشافي النوعية (البيمارستانات) التي ملأت العالم الإسلامي يومها من بلاد الشام حتى الأندلس في شبه الجزيرة الأيبيرية، وكانت تقدم خدماتها مجانا دون أي مقابل، ذلك أنها كانت تُمَوَّل من أوقاف تخصص لها.

وخير من يحدثنا عن رقي الطبابة في تلك الفترة، شاب إفرنسي حمله تاجر أندلسي إلى قرطبة لمعالجته من مرض شديد ألم به.

وكان والد هذا الشاب قد أرسل إلى ابنه رسالة تظهر فيها حيرته في أمره: كيف يفعل ليسدد تكاليف الاستشفاء، وهو راعي الغنم البسيط. فكانت المفاجأة في الجواب الذي بعث به الولد إلى أبيه يطمئنه ويبشره. قال له فيه:

«تسألني إن كنتُ بحاجة إلى نقود! فأخبرك بأني عندما أخرج من المستشفى سأحصل على لباس جديد وخمسِ قطع ذهبية حتى لا أضطر إلى العمل حال خروجي مباشرة فلستَ بحاجة إذن إلى أن تبيع بعض ماشيتك، ولكن عليك بالإسراع في المجيء إذا أردت أن تلقني هنا».

ثم أخذ يشرح لوالده كيف عاملوه في المستشفى، قال: «وأما أنا فلقد سجلوا اسمي هناك بعد المعاينة، وعرضوني على رئيس الأطباء، ثم حملني ممرض إلى قسم الرجال، فحممني حماما ساخنا، وألبسني ثياباً نظيفة من المستشفى».

هذا المستشفى الذي فيه «مكتبة ضخمة، وقاعة كبيرة حيث يحاضر الرئيس للطلاب.. وقاعة كبيرة للنقاهة تعزف فيها الموسيقى الجميلة، ويمضي البعض وقتهم بالمطالعة».

ومما قاله لوالده: إنه لما قال له كبير الأطباء بعد شفائه إنه سيخرج قريبًا، كَرِهَ ذلك «فكل شيء هنا جميل للغاية ونظيف جدًا، الأسِرَّة وثيرة، وأغطيتها من الدِمَقْسِ الأبيض، والـمُلاءُ بغاية النعومة والبياض كالحرير، وفي كل غرفة من غرف المستشفى تجد الماء جاريًا فيها على أشهى ما يكون وفي الليالي القارسة تُدفأ كلُ الغرف. وأمَّا الطعام فحدث عنه ولا حرج!! فهناك الدجاج أو لحم الماشية يقدم يوميًا لكل من يسعه هضمه».

ثم ذكر له أن «جارا له في المستشفى ادعى المرض الشديد أسبوعا كاملا أكثر مما كان عليه حقيقةً رغبةً منه في التمتع بشرائح لحم الدجاج اللذيذ أياما أخرى». انتهى.

هذه الرسالة جاءت في كتاب (شمس الله تشرق على الغرب) للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه تحت عنوان: (مستشفيات مثالية، وأطباء لم يرَ لهم العالم مثيلا). أذكرها لكم فقط لنعلم أنه في يوم من الأيام كانت الدنيا بألف خير..

البيمارستنان العضدي في بغداد

معلوم أن بغداد - حاضرة الخلافة العباسية - شهدت صراعات مريرة مع ظهور البويهيين في القرن الرابع هجري، العاشر ميلادي، ومع ذلك فإن السلطان عضد الدولة البويهي أنشأ سنة (371ه – 981م)ـ بيمارستانا (مستشفى) اعتبر من مفاخر الحضارة الإسلامية تنظيما، وقد وصفه ابن جبير في رحلته يوم دخل بغداد في صفر من عام (580ه- 1184م) بأنه مدينة طبية قائمة بذاتها، فقال:

«سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة، فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم خدمةٌ (صناع متخصصون) يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير (جمع مقصورة)، والبيوت، وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل اليه من دجلة«.

البيمارستان الصلاحي في القاهرة

كما وصف ابن جبير مارستان القاهرة، الذي أنشأه السلطان صلاح الدين الأيوبي، فقال:

«ومما شاهدناه أيضًا من مفاخر هذا السلطان: المارستان الذي بمدينة القاهرة. وهو قصر من القصور الرائقة حُسنًا واتساعًا، أبرزه لهذه الفضيلة تَـأَجُّرا واحتسابًا، وعيّن قيّما من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير، ومكنه من استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها. ووضعت في مقاصير ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكُسِى (الكسوة). وبين يدي ذلك القَيِّمِ خَدَمَةً يتكفلون بتفقد أحوال المرضى بكرة وعشية، فيقابلون من الأغذية والأشربة بما يليق بهم. وبإزاء هذا الموضع موضع مقتطع للنساء المرضى. ولهن أيضا من يكفلهن».

قال: «ويتصل بالموضعين المذكورين موضع آخر متسع الفناء فيه مقاصير عليها شبابيك الحديد اتخذت محابس للمجانين. ولهم أيضا من يتفقد في كل يوم أحوالهم ويقابلها بما يصلح لها.

والسلطان يتطلع هذه الأحوال كلها بالبحث والسؤال ويؤكد في الاعتناء بها والمثابرة عليها غاية التأكيد. وبمصر مارستان آخر على مثل ذلك الرسم بعينه».

فهذا كله يشهد على أن النظام الصحي لكافة الناس كان من أولى أوليات القائمين على أمر السياسة في تلك الأيام، وأن صراعاتهم السياسية والعسكرية التي تغلف في بعض الحيان بغلاف الدين، لم تحل دون قيامهم بواجبهم تجاه الرعية، ولم تتخذ القضية الصحية ومصالح الناس يوما مغنما، وإنما كانت مغرما ينفق عليها الميسورون من سلاطين وأمراء وتجار حسبة لله تعالى لا يسألون الناس جزاءً ولا شكورا.

إنها مشافٍ تنفق على المحتاجين، لا مراكز حجز لمن لا يجد ما يدفعه لهم من المرضى..

هكذا تكون الحضارة، وهكذا تكون المسؤولية تجاه الناس.. لذلك، والله أعلم، إن الاستمرار بعد هذا الوباء والظهور والهيمنة ستكون لأكثر الدول إنسانية.

وصدق من قال:

إنما الأمم الأخلاقُ ما بقيت .. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

البيمارستان الصلاحي الذي أنشأه صلاح الدين الأيوبي في القاهرة.

البيمارستان العضدي الذي أنشأه عضد الدولة البويهي في بغداد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين