مفهوم الأمَّة بين النظريَّات الاجتماعيَّة والتصوُّر الإسلامي (2)

 

الأمَّة في القرآن الكريم:

إن كلمة أمة تأتي في القرآن الكريم في آيات كثيرة دالة على الجماعة التي تشترك بوجه خاص في عقيدة أو قيم أخلاقية أو عمل مشترك، وإليكم الأمثلة:

1 – ﴿إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ﴾ [النحل: 120] ذلك أن إبراهيم عليه السلام يختلف عن قومه بعقيدته التي يتميَّز بها عنهم وينفرد بها، فهم أمة، وهو عليه السلام أمة، هذا مع أنَّه منهم قومياً: ﴿إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِ﴾ [الأنبياء: 52].

2 – ﴿كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ﴾ [الأنعام: 108]، هذه الآية تدل على اشتراك الأمَّة في القيم، أي: مقاييس الخير والشر.

3 – ﴿كُلُّ أُمَّةٖ تُدۡعَىٰٓ إِلَىٰ كِتَٰبِهَا﴾ [الجاثية: 28]، للأمة هنا كتاب مشترك يتضمَّن عقيدتها وشريعتها ودينها.

4 – ﴿لِّكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكًا هُمۡ نَاسِكُوهُۖ﴾ [الحج: 67] بين أفراد الأمَّة مناسك مشتركة في العبادات.

5 – ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ﴾ [البقرة: 128] وصفت الأمَّة هنا بأنها مسلمة لله تعالى.

في كل هذه الآيات السابقة من الواضح أنَّ الأمَّة تشترك في عقيدة وقيم، أي: أنها تشترك في دين واحد، وليس الاشتراك في واحد منها في النسب والأصل والجنس.

وقد يكون هذا الاشتراك في عمل واحد يصدر عن أفراد الأمَّة كقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ﴾ [القصص: 23]، فعمل السقاية المشترك جعل منهم مجتمعاً موحد الاتجاه أطلق عليه في الآية لفظ: (الأمَّة).

وقد تطلق كلمة (أمة) في القرآن الكريم على طائفة من الناس، وعلى فريق من قوم إذا كانت تجمع أفرادها صفة معنويَّة تمتُّ إلى الدين بصلة كقوله تعالى: ﴿أُمَّةٞ قَآئِمَةٞ يَتۡلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ﴾ [آل عمران: 113]، وقوله سبحانه: ﴿وَمِن قَوۡمِ مُوسَىٰٓ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ﴾ [الأعراف: 159]، وقوله جل وعلا: ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ﴾ [آل عمران: 104].

فالأمة: في المفهوم الإسلامي مجتمع يشترك أفراده في العقيدة ومفاهيم الحياة، وفي القيم الخلقيَّة والمثل الإنسانيَّة، وما يتبع ذلك أو يَنبثق عنه من نظم وعادات أو شعائر وعبادات سواء أكانت هذه الأمَّة قبيلة، حين كان التطور البشري يمرُّ بمرحلة القبلية، أم كانت هذه الأمَّة (قوماً) حين كانت تمرُّ البشريَّة بمرحلة تكوُّن القوميَّات، أم كانت مجموع شعوب تجاوزت المرحلتين القبليَّة والقومية في اتجاه التجمُّع الإنساني وهي المرحلة الأحدث والأرقى والأعلى.

أما (القوم) فهم الجماعة التي يجمع بينها أصل مُشترك ونسب مشترك، وقد يشتركون بدين واحد وعقيدة واحدة فهم حينئذ (أمة) و (قوم)، وقد يختلفون في ذلك.

وقد نسب القرآن الكريم الأنبياء إلى أقوامهم وأقوامهم إليهم، ففي القرآن الكريم حديث عن قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم موسى، عليهم السلام، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِ﴾ [هود: 25]، وقوله سبحانه: ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦٓ﴾ [الزخرف: 26] وقوله تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ﴾ [البقرة: 67].

وأمثال هذه الآيات في القرآن الكريم كثيرة، وهؤلاء الأقوام كثير منهم كافرون بما جاء به أنبياؤهم ومع ذلك ينسبون إليهم، فيقال: إن بني إسرائيل هم قوم موسى، ومثلهم قوم نوح وإبراهيم وصالح وهود وشعيب.

وقد ورد أكثر من مرة ذكر قوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو العرب، كقوله تعالى: ﴿وَكَذَّبَ بِهِۦ قَوۡمُكَ وَهُوَ ٱلۡحَقُّۚ ﴾ [الأنعام: 66]، وقوله سبحانه: ﴿وَإِنَّهُۥ لَذِكۡرٞ لَّكَ وَلِقَوۡمِكَۖ ﴾ [الزخرف: 44].

أما أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهم: المسلمون المؤمنون به من قومه ومن غير قومه ممن وصفوا بأنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، وبذلك كانوا كما قال سبحانه: ﴿خَيۡرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: 110]، ولا ينطبق هذه الأوصاف على جميع العرب بل على المسلمين منهم ومن غيرهم، لذلك كان من الجهل الفاضح والمخالفة للمنطق القول بأنَّ المقصود بهذه الآية العرب.

إنَّ مفهوم (الأمَّة) الإسلامي القرآني استناداً إلى ما سبق ذكره من النصوص والآيات قوامه: الانسجام في الفكر والعقيدة والقيم وهو مفهوم يختلف كل الاختلاف عن مفهوم القوم والقومية الذي قوامه: وحدة الأصل والنسب، ولذلك كان مفهوم الأمَّة قابلاً لأن يأخذ خلال العصور أشكالاً مختلفة، وأن يمر بمراحل متعددة فيكون تارة قبيلة وأخرى قوماً، وثالثة مجموع أقوام، لأن المهم فيه كما قلنا: وحدة الاتجاه، وهو موافق للاشتقاق اللغوي في اللغة العربية فهو من الأم مصدر أم، أي: قصد، فوحدة القصد الاتجاه هو جوهر مفهوم الأمَّة.

التأثر بالمفهوم الأجنبي:

ولا تقابل كلمة أمة العربية كلمة (nation) الفرنسية والإنكليزية والألمانية، لأن هذه الكلمة الأجنبية تدل على الأمَّة حينما تكون الأمَّة قومية فحسب، أما في العربية فهي أوسع وأشمل.

وقد تأثر أصحاب النزعة القومية من العرب وغيرهم بهذا المفهوم الأجنبي الضيق، ووقفوا بل عجزوا عن تصوُّر المدلول الواسع المتطور لكلمة الأمَّة، وعن تصور المفهوم الإسلامي للأمة وجمدوا عند مرحلة من مراحل التاريخ، تجاوزها التطور البشري وكانوا بذلك مُتخلِّفين، كما ساروا في تجاه يخالف الإسلام من جهة ويخالف التقدم الإنساني من جهة أخرى، بل إنَّ القومية مذهباً والقوم هدفاً وثنية ابتدائية وجاهلية تعارض الإسلام، وإنما جاء الإسلام لمحوها وإزالتها ومحاربة أصحابها.

ولذلك كان الصراع في العصر الحديث بين الإسلام والمذهب القومي العقائدي صراعاً بين التقدم والتخلف، وبين التحرر والتبعية وبين الأخلاق واللاأخلاق، وبين الإنسانية والعنصرية، وتزعم الاتجاه القومي العقائدي دعاة الفكر الغربي – هذا بالرغم من أنَّ الفكر الغربي تجاوز المرحلة القومية – والمندفعون بعامل العداء للإسلام بسبب الانتماء الطائفي والمتأثرون بموجة القومية التي طغت على بعض الشعوب في أوروبا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

ولو بحثت في زعماء الفكرة القومية من العرب في هذه الحقبة الماضية من المفكرين والباحثين والسياسيين لوجدتهم ينتمون إلى إحدى هذه الفئات الثلاث أو إلى أكثر من واحدة منها.

القومية ليست مذهباً:

إنَّ الانتماء إلى قبيلة أو شعب أو قوم، هو كانتماء الفرد إلى القطيع أمر قسري لا خيار للإنسان فيه، وليس نتيجة تفكير أو رأي يتخذه أو عقيدة يؤمن بها أو مجتمع يختار الانتساب إليه أو الانضمام إلى أفراده، وهذا الانتماء القسري إلى قومية معينة لا فضل للإنسان فيه ولا يكسبه مزية، ولا يغض من صاحبه، ولا ينتقص من قدره، ولذلك كان الافتخار بهذا النسب القومي وكذا الازدراء بالآخرين لنسبهم أو لونهم جاهلية منحطّة وعصبية ذميمة.

أما اتخاذ القومية مذهباً عقائدياً فهو غاية في السخف والجهل، فكيف يكون الانتساب إلى قومية من القوميات مذهباً وعقيدة؟، وكيف يكون الانتماء إلى قوم محدِّداً لموقف الإنسان من الوجود، ومعيناً لنظامه السياسي والاقتصادي؟ 

وهل رأينا في المذاهب الفكرية والفلسفية مذهباً اسمه القومية؟ وهل شهدنا اليوم في أمة من الأمم الراقية علمياً وصناعياً حزباً يبني منهجه ونظامه على القومية؟ قد يبني على الديمقراطية أو على الاشتراكية أو على الماركسية أو على الديمقراطية النصرانية أو على الديمقراطية الاشتراكية، أما على القومية وحدها دون مذهب سياسي عقائدي فلا، لأنها لا يمكن أن تكون في ذاتها مذهباً قائماً بنفسه، وإنما يمكن أن تكون إطاراً يحدد نطاق العمل لمذهب من المذاهب العقائدية أو لحركة سياسية.

العوامل الدافعة إلى الأخذ بالفلسفة القومية:

فما معنى الخروج على منطق الأحداث والمجافاة للعقل والمنطق في الحركات القومية التي تبنت القومية مذهباً في بعض البلاد العربية، ولدى بعض الشعوب الإسلاميَّة كالأتراك والأكراد، نستطيع أن نوجز العوامل الدافعة إلى الأخذ بالفلسفة القومية والعقيدة القومية لدى بعض فئات الشعب العربي دون جماهيره العظمى وفي منطقة بلاد الشام والعراق دون الأقطار المغربية والجزيرة العربية ومصر فيما يلي:

1 – التأثُّر بالفكرة العلمانيَّة الوافدة من الغرب والمتأثرة بظروفه الخاصَّة، والقائلة بفصل الدين عن الدولة والمجتمع والسياسة، بل التأثر أحياناً بالإلحاد الذي ساد وانتشر في الأوساط الفكريَّة والفلسفيَّة في الغرب في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، مُضافاً إلى ذلك بوجه خاص الثقافة الألمانية التي سادت فيها الفكرة القومية من عهد بسمارك حتى هتلر وبوجه أخص الفلسفة القومية التي نادى بها الفيلسوف الألماني (فيخته) في القرن التاسع عشر، وتأثَّر بها المثقفون في أواخر العهد العثماني، وتربى في أجوائها دعاة القومية التركيَّة ودعاة القومية العربية، ويدخل في هذه الزمرة ساطع الحصري مؤلف كتاب (العروبة أولاً) وغيره من المؤلفات القومية. (1).

2 – التأثير اللاشعوري أو الواعي بالانتماء الطائفي الخاص أو الضيق الحافظ لأصحابه من مفكرين وسياسيين لإقصاء الإسلام على أنه عقيدة سائدة وتشريع نافذ ونظام حاكم اعتقاداً منهم بأن ذلك يؤدي إلى التضييق عليهم أو ظلمهم أو جعلهم مُواطنين من الدرجة الثانية [الفكر العربي في عصر النهضة: 326-331].

وقد كان أمهرُ الدعاة إلى هذه الفكرة قُسطنطين زريق ذلك أنه سلك طريقة تبني التراث الإسلامي العربي – كما يقال ألبرت حوراني – ودعا في الوقت نفسه إلى: (أنَّ القومية هي العقيدة التي نفتقر إليها... لكن مجتمعنا العربي من نوع خاص فهو يستمد وحيه ومبادئه من الدين، وهذا الدين ليس إلا الإسلام).

ثم يميز على حد قوله بين الروح الدينية والعصبية الطائفية، ثم يدَّعي أن جميع الأديان تنطوي على جوهر واحد للحقيقة ثم يصوغ فكرته التي أراد بها إقصاء الإسلام بالقول: (إنَّ العلاقة بين العرب والإسلام علاقة جوهرية، وأنَّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو منشئ الحضارة العربية وموحد الشعب العربي، ورجل العقيدة الذي منه يستطيع هذا الشعب أن يستمدَّ الإلهام). ويقول هنا ألبرت حوراني معلقاً: (ليس هناك ما يشير إلى أن على العرب أن يتخذوا منه أكثر من هذا أو أن يسترشدوا الشريعة الإسلاميَّة أو بمؤسسات الخلافة، ومما لا شك فيه أن في العرب أن يكونوا شعباً حديثاً وعليهم بالتالي أن يقتبسوا المؤسسات التي تميز بها الغرب).

وتفصيل هذه العملية التي تستهدف إقصاء الإسلام باعتباره عقيدة وأفكاراً ومبادئ تشريعية تظهر للمتأمل بعمق في كتابه: (نحن والتاريخ) بالرغم من كل ثنائه (التاريخي) على الإسلام.

3 – دفع الدول الغربية والمراكز التبشيرية فيها لجميع الحركات التي يمكن أن تحلَّ محلَّ الإسلام وتقويتها سواء أكانت متجهة نحو القومية السورية أو اللبنانية أو العربية.

يقول جورج أنطونيوس في كتابه (يقظة العرب): ( أن التسامح الذي تميز به حكم إبراهيم بن محمد علي أتاح المجال لقوتين إحداهما فرنسية والأخرى أمريكية قدر لهما أن تحضنا الحركة القومية وترعاها) [ص97] ويعني بالفرنسية: البعثات التبشيرية الكاثوليكية في لبنان، وبالأمريكية: الكلية الانجيلية التي أصبحت فيما بعد الجامعة الأمريكية في بيروت.

ولم يكن ناصيف اليازجي وبطرس البستاني إلا موظفين عاملين في كنف هذه الإرساليات التبشيرية الأمريكيَّة، وفي ظلها نشأت جمعيات كجمعية العلوم والآداب كان فيها أعضاء من الإنكليز والأمريكان.

(ولم يكن فيها – كما يقول جورج أنطونيوس – عضو مسلم أو درزي) والجمعية الشرقية الكاثوليكية التي تتألف كذلك من السوريين ومن الأجانب وكانوا على حد قوله جميعاً من النصارى (ص117-118).

تحت تأثير هذه العوامل الثلاثة كلها أو بعضها نشأ دعاة المذهب القومي أو الأيديولوجية القومية خلال قرن كامل وترعرعت الحركة القوميَّة في غياب الحركة الإسلاميَّة ذلك أنَّ الإسلام قد سترت حقائقُه الكبرى تحت ستار الطرق الصوفيَّة أو التقاليد المبتدعة أو الأحكام المنشورة المجزَّأة.

نكتفي بهذا الاستعراض المجمل السريع لمفهوم الأمَّة في الإسلام ونصوصه ولدى علماء الاجتماع الغربيين ولدى السياسيين والأحزاب السياسية المعاصرة، وقد أردنا به تحديد المواقف وتوضيح الرؤية، وإزالة الغموض والالتباس لعله يكون وسيلة ليصحِّح أصحابُ النيَّة الحسنة مَواقفهم، وليظهر الخطأ والزيف، وتبرز الحقيقة الناصعة و ليبدو المفهوم الإسلامي واضحاً للجميع، وتظهر خصائصه الإنسانيَّة، واتجاهاته الأخلاقية، ومزيته التقدميَّة، وأصوله الإلهيَّة الربانيَّة.

هوامش:

(1) انظر كلمة تحليلية دقيقة عن ساطع الحصري في كتاب (الفكر العربي في عصر النهضة) تأليف ألبرت حوراني (371-376) هذا وإنَّ مُرافقتي شخصياً للأستاذ ساطع الحصري في العمل المشترك مدة سنتين في وزارة التربية في سورية حيناً كان مشاوراً للوزارة وكنت عضواً للجنة التربية والتعليم والمفتش الاختصاصي للغة العربية والدين في التعليم الثانوي في سوريا تؤكد هذه المعلومات تأكيداً تاماً، انظر الكتاب نفسه ص 366 حيث ترى شرحاً وتحليلاً لهذه الفكرة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة الأمَّة، لندن، محرم 1402هـ . 

الحلقة الأولى هـــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين