عبرةٌ وعظةٌ من مسجدِ المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم

 

أنارَ كلُّ شيءٍ في يثربَ بهجرةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إليها، وغدت طيبةَ الطَّيِّبةَ عاصمةَ الإسلامِ، ومنطلقَ المهاجرين والأنصارِ لنشر الدِّين الحنيف، وإعلاء مناره المنيف، ولم يلبثِ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى هبَّ مع أصحابه الكرام لعمارة المسجد النَّبوِّيِّ، يؤسِّسونه على التقوى مرتجزين:

لاهُمَّ إنَّ الأجرَ أجرُ الآخرة=فارحمِ الأنصارَ والمهاجرة

ويتمُّ البناء ويرتفع؛ السَّقف من سَعَف النَّخيل، والعُمُد من جذوعه، والأرض مفروشةٌ بالحصباء، في هذا المكان المتواضع في بنيانه الرَّفيع في قداسته كانتِ السَّكينة تتنزَّلُ على خير الخلق، وتغشاهم الرَّحمة، وتحفُّهم الملائكة، والنَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام بين أظهرهم، يزكِّيهم ويعلِّمهم، ويربِّيهم ويؤدِّبهم، ويأخذ بأيديهم إلى جنَّات النَّعيم.

القرآن يتنزَّل منجَّمًا مفرَّقًا، والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يبلِّغ عن ربِّه ما يُوحى إليه، والصَّحابة يتلقَّون ذلك النُّور؛ فتشرق نفوسهم، وتنشرح صدورهم، وتخشع جوارحهم، وتستقيم أحوالهم.

وتستمرُّ الدَّعوة بقوَّةٍ وثباتٍ، ويكثُرُ المسلمون، وتصبح الحاجة ملحَّةً إلى منبرٍ يرقى عليه المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى يراه النَّاس في خُطَبه، ويوضع المنبر في صدر المسجد، ويتوجَّه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إليه والأنظار متعلِّقةٌ به، وما أن يستوي عليه حتَّى يرتفعَ في المسجد صوت أنينٍ وحنينٍ، بكاءٌ في المسجد وليس أحدٌ من الصَّحابة باكيًا، يتلفَّت الصَّحابة يمنةً ويسرةً، يستجلون الأمر، ويتقصَّون الخبر، فإذا بالصوت لا يأتي من بشرٍ، بل من جِذْع نخلةٍ كان النَّبيُّ عليه السَّلام يستند إليها من قبلُ في خُطَبه، ويرتفع الصَّوت حتى يرتجَّ المسجد من شدَّته، ويتحلَّق الصَّحابة حول الجِذْع، تفيض دموعهم خشيةً لله وخشوعًا، وينزل النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام عن منبره، ويقصد إلى الجِذْع فيضمُّه إليه، ويهدِّئه كما يهدَّأ الصَّبيُّ حتَّى يسكتَ، ثمَّ يُجلِّي الأمر لأصحابه، ويُبيِّن أن بكاء الجِذْع كان لبُعد النَّبيِّ عنه، ولفقده الذِّكر الذي كان يُتلَى عنده، ثم يخاطب النَّبيُّ بأبي هو وأمي الجِذْع، فيُخيِّرُه بين أن يرجعَه كما كان رطبًا، أو أن يكون غرسةً من غِراسِ الجنَّةِ؛ يرتوي من أنهارها، ويأكل من ثمره أولياءُ الله، فيختار الجِذْع الجنَّة، ويأمر النَّبيُّ عليه السَّلام بدفنه، ويقول: ((والذي نفسي بيده، لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزنًا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)).

فهذا الجِذْع حنَّ لذكر الله، وحزن للبُعد عن رسول الله، وأظهر الله ذلك للملأ من الصَّحابة حتى يعرفوا قدر نبيِّهم عليه الصَّلاة والسَّلام، ويزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، قال الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله: ((ما أعطى الله نبيًّا ما أعطى محمَّدًا ، فقيل له: أعطى عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطى محمَّداً حنين الجِذْع حتى سُمِعَ صوتُه، فهذا أكبرُ من ذلك)).

وكان الحسنُ البصريُّ - رحمه الله - إذا حدَّث بحديثِ حنين الجِذْع، لا يتمالك نفسَه، وتفيض عيناه، ويقولُ: ((يا معشرَ المسلمين، الخشبةُ تحِنُّ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شوقًا إلى لقائه، فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إليه)). وفي روايةٍ عنه: ((أوَليس الرِّجالُ الذين يرجون لقاءَه أحقَّ أن يشتاقوا إليه)).

قال البيهقيُّ رحمه الله: ((قصَّة حنين الجِذْع، من الأمور الظَّاهرة التي حملها الخلفُ عن السَّلف، وفيها دليلٌ على أنَّ الجماداتِ قد يخلق الله لها إدراكًا كأشرف الحيوان)).

لقد فقِه الصَّحابة الدَّرس وفهموا المعجزة حقَّ الفهم، فتعلَّقت قلوبهم بذكر الله حتَّى سرت محبَّة القرآن في دمائهم، ولزموا نبيَّهم خير ملازمةٍ، فلا يفارقون هديه، ولا يتركون سنَّته، ولا يقصِّرون في نصرته، فهم أولى به من جِذْع نخلةٍ لم يكلِّفْه الله تبارك وتعالى، وبعد وفاة النَّبيِّ عليه السَّلام يشتدُّ فقدُه على أصحابه، ويجدون عليه أشدَّ الوجد، يقول أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: ((حينما تُوفِّيَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كنَّا نقول: يا رسولَ الله إنَّ جِذْعًا كنتَ تخطُب عليه فترَكتَه فَحَنَّ إليك، كيف حين تركتَنا لا تحِنُّ القلوب إليك؟)).

ويدخل أبو بكرٍ وعمرُ على أمِّ أيمنَ حاضنةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فإذا بها تبكي بكاءً مُـرًّا، وتقول: ((إنَّما أبكي لانقطاع الوحي من السَّماء)).

فيا أيُّها المسلمون هذا كتاب الله بين أيدينا محفوظًا وما علينا إلا أن نُقبِلَ عليه ﴿ ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشعَ قلوبُهم لذكرِ الله وما نزل من الحقِّ ﴾.

فكم من مسلمٍ لا يقرأ القرآن إلا في رمضانَ؟

وكم من مسلمٍ تطرُق سمعَه آياتُ الذِّكر فلا تحرِّك له قلبًا، ولا يجد لها لذَّةً ؟

إنَّ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم قد استغاث بربِّه كما بيَّن الله في كتابه: ﴿ وقال الرَّسولُ يا ربِّ إنَّ قومي اتَّخذوا هذا القرآنَ مهجورًا ﴾، فلنحذر من الوفود على الله وقد هجرنا كتابه وسنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، فإن من أعظم الحسرة أن يسبقَنا إلى الجنَّة جِذْعٌ من خشب.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين