مختارات من تفسير

﴿وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ٥٨ فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوۡلًا غَيۡرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمۡ فَأَنزَلۡنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجۡزٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ٥٩ ۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ٦٠﴾ 

السؤال الأول:

المطلوب إجراء مقارنة بين قصة موسى في آيات البقرة ( 58ـ60) والقصة نفسها في آيات سورة الأعراف (160ـ 162) وهي قوله تعالى : 

{وَقَطَّعۡنَٰهُمُ ٱثۡنَتَيۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمٗاۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ إِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰهُ قَوۡمُهُۥٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنۢبَجَسَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۚ وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلۡغَمَٰمَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ١٦٠ وَإِذۡ قِيلَ لَهُمُ ٱسۡكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ وَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ وَقُولُواْ حِطَّةٞ وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطِيٓـَٰٔتِكُمۡۚ سَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ١٦١ فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ قَوۡلًا غَيۡرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمۡ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِجۡزٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظۡلِمُونَ١٦٢} ؟ 

الجواب:

مقدمـــة :

سياق آيات سورة البقرة هو في تعداد النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل, بينما سياق آيات سورة الأعراف هو في مقام تقريع وتأنيب لما فعله بنو إسرائيل بعد أنْ أنجاهم الله من البحر وأغرق فرعون .

وإليك أهم الفروق التعبيرية بين السورتين :

فما سر هذا الاختلاف ؟

البيان هو حسب التسلسل المذكور أعلاه :

1ـ قال في البقرة (وَإِذۡ قُلۡنَا) [البقرة:58] وفي الأعراف (وَإِذۡ قِيلَ) [الأعراف:161] ببناء الفعل للمجهول , والقرآن الكريم يسند الفعل إلى الله سبحانه في مقام التشريف والتكريم ومقام الخير العام والتفضل، بخلاف الشر والسوء، فإنه لا يذكر فيه نفسه تنزيهاً له عن فعل الشر وإرادة السوء.

ـ شواهد قرآنيةعلى ذكر نفسه تعالى :

المائدة [3]، النساء [72، 69] الإسراء [ 83] الفاتحة [7] الزخرف [59] الشعراء [ 78، 80] الجن [10] الكهف [79، 82 ] الحجرات [7 ] الصافات [ 6] الملك [ 5 ] الحجر [16].

ـ شواهد قرآنية على عدم ذكر نفسه تعالى : 

البقرة [ 212] الرعد [33 ] الأنعام [ 122] فاطر [ 8 ] غافر [37] التوبة [37] الفتح [12]. 

ملاحظات :

ـ قد تجد (زَيَّنَّا لَهُمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ) [النمل:4] ولكن لا تجد (زينا لهم سوء أعمالهم)؛ لأنّ الله لا ينسب لنفسه السوء.

ـ تجد (ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ) [البقرة:121] في مقام المدح والثناء، وتجد (أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ) [البقرة:101] في مقام الذم والتقريع.

ـ تجد (أَوۡرَثۡنَا) [فاطر:32] في مقام المدح، وتجد (أُورِثُواْ) [الشورى:14] في مقام الذم.

ـ شواهد قرآنية على (ءَاتَيۡنَا ) :

البقرة [53 ] الجاثية [16] البقرة [121، 146 ] الأنعام [20 ]الأنعام [114 ][89 ] الرعد[ 36] القصص[ 52] العنكبوت [47] النساء [54].

ـ شواهد قرآنية على (أُوتُواْ ) :

البقرة [ 101، 145] ـ آل عمران [ 19، 23، 100، 187] النساء [44، 47، 51 ] المائدة [ 57 ] التوبة [ 29 ] الحديد [16]. 

ـ شواهد قرآنية على (أَوۡرَثۡنَا ) :

فاطر [32 ] غافر [53]

ـ شواهد قرآنية على (أُورِثُواْ) :

الشورى [14].

وليس معنى هذا أنّ الله سبحانه لا ينسب إلى نفسه عقوبة، بل إنه يفعل ذلك لأنه من الخير العام , ولكنه لا ينسب إلى نفسه سوءاً، فإنه من أكبر الخير أنْ يهلك الطغاة الظالمين (لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ) [إبراهيم:13] (ثُمَّ أَخَذۡتُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ) [فاطر:26] .

2 و3 ـ قال في البقرة: (ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ) [البقرة:58] وقال في الأعراف : (ٱسۡكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ وَكُلُواْ) [الأعراف:161] .

في البقرة المطلوب الدخول ثم الأكل مباشرة (فَكُلُواْ) [البقرة:58] بالفاء.

بينما المطلوب في الأعراف : السكن والاستقرار ثم الأكل (وَكُلُواْ) بالواو.

والدخول غير السكن؛ لأنّ السكن لا يكون إلا بعد الدخول، فجعل الطعام في البقرة مهيأ قبل السكن والاستقرار, وفي الأعراف مع السكن بلا تعقيب فقد يطول الزمن وقد يقصر، فكان الموقف في البقرة أكرم وأفضل .

4ـ قال في البقرة : (رَغَدٗا) [البقرة:58] ولم يقل ذلك في الأعراف تناسباً لتعداد النعم في البقرة ، مع ملاحظة أن كلمة (رَغَدٗا) تكررت مرتين في سورة البقرة مع قصتي آدم وموسى عليهما السلام؛ لأنّ جو البقرة جو تكريم لآدم وتكريم لذريته من بني إسرائيل, ولم تذكر الكلمة في الأعراف في القصتين؛ لأنّ جو السورة جو عقوبات وتأنيب.

ثم انظر كيف قدّم (رَغَدٗا) في الجنة وأخّرها في الدنيا، فقال في الجنة: (وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا) [البقرة:35] وقال في الدنيا : (فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا) [البقرة:58]؛ لأنّ الرغد في الدنيا قليل.

5 ـ في البقرة قدّم السجود على القول (وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ) [البقرة:58] وذلك لسببين:

آ ـ السجود أشرف من القول .

ب ـ السياق يقتضي ذلك، فقد جاءت هذه القصة في عقب الأمر بالصلاة، انظر آيات سورة البقرة( 43- 47 ) فناسب تقديم السجود لاتصاله بالصلاة والركوع , وكلا الأمرين مرفوع في سورة الأعراف فأخّر السجود.

6 ـ في البقرة قال: (نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ) [البقرة:58] بجمع الكثرة وهو مناسب لمقام تعداد النعم , وقال في الأعراف : (خَطِيٓـَٰٔتِكُمۡۚ) [الأعراف:161] بجمع القلة وهو مناسب لمقام التقريع والتأنيب.

7ـ قال في البقرة: (وَسَنَزِيدُ) [البقرة:58] فجاء بالواو الدالة على الاهتمام والتنويع ولم يجىء بها في سورة الأعراف.

8 ـ قال في سورة البقرة : (ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ) وقال في سورة الأعراف (ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ) وذلك لأنه سبق هذا القول في سورة الأعراف قوله تعالى : (وَمِن قَوۡمِ مُوسَىٰٓ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ) [الأعراف:159] أي : ليسواجميعاً على هذه الشاكلة من السوء , فناسب هذا التبعيض في الآية. وجاء في ( التفسير الكبير ) أنّ سبب زيادة كلمة ( منهم ) في الأعراف أنّ أول القصة مبني على التخصيص بلفظ ( من ) كما في الآية (159 ) فذكر أنّ منهم من يفعل ذلك , ثم عدّد صنوف إنعامه عليهم وأوامره لهم , فلمّا انتهت القصة قال تعالى : (ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ) فذكر لفظة ( منهم ) في آخر القصة كما ذكرها في أول القصة ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله . 

9ـ الفرق بين قوله تعالى في البقرة: (فَأَنزَلۡنَا) وبين قوله في الأعراف : (فَأَرۡسَلۡنَا ) أنّ الإنزال لا يشعر بالكثرة، والإرسال يشعر بها،والإرسال أشد في العقوبة من الإنزال , قال تعالى في أصحاب الفيل : (وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ٣ تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٖ مِّن سِجِّيلٖ٤ فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۢ٥) فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيراً, والسبب أنّ سياق آيات سورة البقرة هو في تعداد النعم التي أنعم الله على بني إسرائيل, بينما مقام آيات سورة الأعراف هو مقام تقريع وتأنيب لما فعله بنو إسرائيل.

وللعلم فقد ورد لفظ ( الإرسال ) ومشتقاته في الأعراف حوالي ثلاثين مرة , وفي البقرة سبع عشرة مرة , فوضع كل لفظ في المكان الذي هو أليق بها .

10 ـ قال في البقرة: (عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٥٩) وقال في الأعراف: (عَلَيۡهِمۡ ١٦٢) وهو أعم من الأول , أي أنّ العقوبة أعم وأشمل وهو المناسب لمقام التقريع .

11ـ قال في البقرة: (يَفۡسُقُونَ ٥٩) وقال في الأعراف: (يَظۡلِمُونَ ١٦٢) والظلم أشد من الفسق، وهو المناسب لـ ( إرسال ) العذاب فذكر في كل سيلق ما يناسبه . وقد يظلم الإنسان نفسه وقد يظلم غيره، ولكنّ الفاسق هو الذي يظلم نفسه بخروجه عن طاعة الله وليس شرطاً أنْ يظلم غيره، وجاء في الحديث القدسي «ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا» . والله أعلم.

تتمة النقاط وتفصيلات أخرى تجدها فيما يلي :

السؤال الثاني:

ما الفرق من الناحية البيانية بين (فَٱنفَجَرَتۡ) [البقرة:60] في سورة البقرة ، و(فَٱنۢبَجَسَتۡ) [الأعراف:160] في سورة الأعراف في قصة موسى عليه السلام؟

الجواب:

1ـ جاء في سورة البقرة (وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ) [البقرة:60] .

وجاء في سورة الأعراف (وَقَطَّعۡنَٰهُمُ ٱثۡنَتَيۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمٗاۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ إِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰهُ قَوۡمُهُۥٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنۢبَجَسَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۚ وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلۡغَمَٰمَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ) [الأعراف:160] . 

والسؤال ماذا حدث فعلاً هل انفجرت أو انبجست؟ والجواب كلاهما، وحسب ما يقوله المفسرون: إنها انفجرت أولاً بالماء الكثير، ثم قلّ الماء بمعاصيهم.

في سياق الآيات في سورة البقرة الذي يذكر الثناء والمدح والتفضّل على بني إسرائيل جاء بالكلمة التي تدل على الكثير، فجاءت كلمة (فَٱنفَجَرَتۡ) [البقرة:60]، أمّا في سورة الأعراف فالسياق في ذمّ بني إسرائيل فذكر معها الانبجاس (فَٱنۢبَجَسَتۡ) وهو أقلّ من الانفجار, وهذا أمرٌ مشاهد فالعيون والآبار لا تبقى على حالة واحدة، فقد تجفّ العيون والآبار، فذكر الانفجار في موطن والانبجاس في موطن آخر، وكلا المشهدين حصل بالفعل. 

2 ـ سياق الآيات في البقرة هو في التكريم لبني إسرائيل، فذكر أموراً كثيرة في مقام التفضيل والتكرّم والتفضّل: (وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ٤٩ وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ٥٠) [البقرة: 49 ،50] و (يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ) [البقرة:47] .

أمّا السياق في الأعراف فهو في ذكر ذنوبهم ومعاصيهم، والمقام مقام تقريع وتأنيب لبني إسرائيل: (وَجَٰوَزۡنَا بِبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتَوۡاْ عَلَىٰ قَوۡمٖ يَعۡكُفُونَ عَلَىٰٓ أَصۡنَامٖ لَّهُمۡۚ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَآ إِلَٰهٗا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةٞۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمٞ تَجۡهَلُونَ) [الأعراف:138] والفاء (فَأَتَوۡاْ) [الأعراف:138] هنا تفيد المباشرة، أي: بمجرد أنْ أنجاهم الله تعالى من الغرق أتوا على قوم يعبدون الأصنام فسألوا موسى أنْ يجعل لهم إلهاً مثل هؤلاء القوم.

3ـ قوم موسى استسقوه، فأوحى إليه ربه بضرب الحجر (وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ) [البقرة:60] وفيها تكريم لنبيّ الله موسى عليه السلام واستجابة الله لدعائه. والإيحاء أنّ الضرب المباشر كان من الله تعالى, وفي الأعراف موسى عليه السلام هو الذي استسقى لقومه (إِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰهُ قَوۡمُهُۥٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ) [الأعراف:160]. 

4ـ قال في البقرة: (كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ) [البقرة:60] والشرب يحتاج إلى ماء أكثر، لذا انفجر الماء من الحجر في السياق الذي يتطلب الماء الكثير, بينما قال في الأعراف:( كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ)[الأعراف:160] لم يذكر الشرب فجاء باللفظ الذي يدل على الماء الأقلّ (فَٱنۢبَجَسَتۡ) [الأعراف:160] .

5ـ في البقرة جعل الأكل عقب الدخول، وهذا من مقام النعمة والتكريم (ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ) [البقرة:58] والفاء تفيد الترتيب والتعقيب، بينما في الأعراف لم يرد ذكر الأكل بعد دخول القرية مباشرة، وإنما أمرهم بالسكن أولاً ثم الأكل (ٱسۡكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ وَكُلُواْ) [الأعراف:161] .

(رَغَدٗا) تذكير بالنعم وهم يستحقون رغد العيش كما يدلّ سياق الآيات، وفي الأعراف لم يذكر (رغداً)؛ لأنهم لا يستحقون رغد العيش مع ذكر معاصيهم .

7ـ في البقرة قال: (وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ) [البقرة:58] بُدئ به في مقام التكريم وتقديم السجود أمر مناسب للأمر بالصلاة الذي جاء في سياق السورة (وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرۡكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ) [البقرة:43] والسجود هو من أشرف العبادات، بينما قال في الأعراف:

( وَقُولُواْ حِطَّةٞ وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا) [الأعراف:161] لم يبدأ بالسجود هنا؛ لأنّ السجود من أقرب ما يكون العبد لربه ، وهم في السياق هنا مبعدون عن ربهم لمعاصيهم .

8ـ قال في البقرة: (نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ) [البقرة:58] (الخطايا) جمع كثرة, وإذا غفر الخطايا فقد غفر الخطيئات قطعاً, وهذا يتناسب مع مقام التكريم الذي جاء في السورة، بينما قال في الأعراف: (نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطِيٓـَٰٔتِكُمۡۚ) [الأعراف:161] وخطيئات جمع قلّة، وجاء هنا في مقام التأنيب، وهو يتناسب مع مقام التأنيب والذّم في السورة .

(وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ) [البقرة:58] إضافة الواو هنا تدل على الاهتمام والتنويع، ولذلك تأتي الواو في موطن التفضّل وذكر النعم، وفي الأعراف (سَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ) [الأعراف:161] لم ترد الواو هنا؛ لأنّ المقام ليس فيه تكريم ونعم وتفضّل.

10ـ في البقرة قال: (فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوۡلًا غَيۡرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمۡ) [البقرة:59] وفي الأعراف (فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ) [الأعراف:162] هم بعض ممن جاء ذكرهم في أول الآيات.

11ـ في البقرة قال:( فَأَنزَلۡنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ)[البقرة:59] وفي الأعراف قال: (فَأَرۡسَلۡنَا) [الأعراف:162] (أرسلنا) في العقوبة أشدّ من (أنزلنا)، وقد تردد الإرسال في السورة 30 مرة، أما في البقرة فتكرر 17 مرة .

12ـ في البقرة قال: (بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ) [البقرة:59] وفي الأعراف (بِمَا كَانُواْ يَظۡلِمُونَ) [الأعراف:162] والظلم أشدّ؛ لأنه يتعلّق بالنفس وبالغير.

لذلك (فَٱنفَجَرَتۡ) [البقرة:60] جاءت هنا في مقام التكريم والتفضّل، وهي دلالة على أنّ الماء بدأ بالانفجار بالماء الشديد فجاء بحالة الكثرة مع التنعيم، وجاءت (فَٱنۢبَجَسَتۡ) [الأعراف:160] في مقام التقريع؛ قلّ الماء بمعاصيهم، فناسب ذكر حالة قلّة الماء مع تقريعهم .

وخروج الماء كان كثيراً في البداية لكنه قلّ بسبب معاصيهم، وليس هذا تعارضاً كما يظن بعضهم، لكن ذكر الحالة بحسب الموقف الذي هم فيه، فلمّا كان فيهم صلاح قال: انفجرت، ولمّا كثرت معاصيهم قال: انبجست.

13ـ في الآية (وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ) [البقرة:60] موسى ضرب الحجر، لكنه لم يقل (فضرب) إذن الكلام فيه حذف، وهو مفهوم ولكن لم يذكره .

السؤال الثالث:

قال تعالى: (وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ) [البقرة:60] ولم يقل مثلاً : (وإذ استسقى موسى ربّه) ؟ أليس موسى أحد أفراد القوم ؟

الجواب:

في هذا السؤال دلالة على عناية الله تعالى بعباده الصالحين، فهذا الدعاء والاستسقاء يدلك على أنّ موسى عليه السلام لم يصبه العطش؛ لأنّ الله تعالى وقاه الجوع والظمأ، كما قال رسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم : «إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني»

وانظر كيف كان الاستسقاء لموسى عليه السلام وحده دون قومه، فلم يقل ربنا سبحانه وتعالى مثلاً : (وإذا استسقى موسى وقومه ربهم)، وذلك ليظهر لنا ربنا كرامة موسىِ عليه السلام وحده، ولئلا يظن القوم أنّ الله تعالى أجاب دعاءهم.

السؤال الرابع:

ما نوع الفاء في كلمة (فَقُلۡنَا) [البقرة:60] في الآية ؟

الجواب:

الفاء هي الفاء الفصيحة، وهي الفاء التي تبين وتفصح عن :

1 – محذوف وتدل على ما نشأ عنه مثل قوله تعالى: (وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ) [البقرة:60] وتقدير الكلام ( ... فقلنا اضرب بعصاك الحجر فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) . 

2ـ أو تفصح عن جواب شرط محذوف، مثل قوله تعالى: (قَالَتۡ فَذَٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمۡتُنَّنِي فِيهِۖ) [يوسف:32] و تقدير الكلام : إنْ كنتن لا تدرين فذلكن الذى لمتنني فيه .

3ـ الفاء الفصيحة لا محل لها من الإعراب .

والله أعلم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين