هل الفقه الإسلامي ذكوري؟

انتشرت مؤخرا منشورات ومقالات لتيار "#النسويات_الإسلاميات" تكرر العزف على وتر "ذكورية الفقه"، وتزعم أن الفقهاء أقصوا النساء عن العلم عمدا، وكأنهم تحالفوا في مؤامرة معدة مسبقة لمنع العلم عن النساء تلقيا وإنتاجا، ما أدى في المحصلة إلى طرح مدونات فقهية ذكورية بامتياز، والمؤسف أن بعض هؤلاء الكاتبات ينقلن مزاعمهن جهارا عن مصادر استشراقية غير متوازنة ولا موضوعية!

الحقيقة أن الذكورية كانت موجودة بالفعل في بعض المجتمعات العربية والإسلامية، وبدرجات وصور متفاوتة بسبب خضوعها للأعراف المتغيرة زمانيا ومكانيا، كما احتوت كتب الفقه على فروع وفتاوى اجتهادية تقيد فاعلية المرأة، وبما يناقض أحيانا ما كانت عليه في زمن الصحابة من حضور ومشاركة مجتمعية، لا سيما مع تراخي الوازع الديني الذي كان في صدر الإسلام وتزايد المخاوف من فتنة الاختلاط (الغيرة)، أما بالنسبة للتحصيل العلمي والدراسة والتدريس فقد ظلت المرأة حاضرة في كل مجالات العلوم والفنون والتصوف والوعظ.

فحتى المستشرق الأميركي دانكن بلاك ماكدونلد -وهو لا يخفي تعصبه- تحدث باقتضاب في كتابه "تطور الدولة والفقه والكلام في الإسلام" عن منافسة بعض النساء للرجال في مجال العلم، مثل نفيسة بنت الحسن التي نافست الشافعي نفسه وتوافد عليها طلبة العلم في القاهرة. وعندما تحدث عن التصوف والزهد، قال ماكدونلد بوضوح في صفحة 174 "لم تختلف منزلة هؤلاء النساء عن منزلة الرجال في الإسلام".

في المقابل، من المؤسف أن تكرر "#النسويات الإسلاميات" مزاعم حرمان النساء من العلم وتغييبهن عن المشهد الفقهي، فقد كانت النساء يدرسن في المساجد ويسمعن من الرجال وإن من وراء ستار، ويدرّسن فيها وفي بيوتهن، وكان يزورهن فيها الرجال ليسمعوا منهن، وخاصة مرويات الحديث، وبعضهن كانت تلقب "مسندة العصر" لتفردها بأسانيد لا توجد عند الرجال، وكانت بعضهن ترحل في طلب العلم، ولهن مدارس خاصة تسمى "الرُّبُط" (جمع رباط).

ومن المؤسف أيضا النقل عن المستشرقين وتعليلاتهم "الاجتماعية" لكثير من التعاليم الدينية في الإسلام، ومنها الزعم بأن كثرة اقتناء الجواري وانتشار ظاهرة الجواري والأدب الجنسي المرتبط بهن في الحواضر العباسية، وتزامن ذلك مع نشأة المذاهب الفقهية، أدت في المحصلة إلى ظهور نزعة التشدد لدى الفقهاء، ما يستدعي منا اليوم تخليص التراث الفقهي من تلك الحمولة الأيديولوجية! والحقيقة أن ارتباط الغناء بالجواري كان موجودا منذ مرحلة مبكرة، بل كانت المدينة المنورة من الحواضر المشهورة بهذا الفن، لكن وجود الجواري لم يكن مانعا من الحضور العلمي للحرائر اللاتي ظلت لهن مكانتهن الاجتماعية المحترمة، وواصلن مشاركاتهن العلمية كنساء مصونات الشرف والمكانة، بالتوازي مع وجود الجواري المتخصصات بالشعر والغناء والمتعة!

لذا لا نعجب عندما نجد في كتب التراجم المئات من النساء في طبقات العلماء المختلفة، حتى إن أحد الباحثين أحصى ٢٧٠ فقيهة بمكة المكرمة وحدها خلال القرن التاسع وحده، وقس على ذلك ما شئت من المدن والقرون، وكثير منهن كن مفتيات ينقضن فتاوى الرجال، بما فيها فتاوى آبائهن وأزواجهن من العلماء. لذا فمن غير المنطقي الزعم بأن كتب الفقه صُنفت في معزل عن النساء، وتآمرت ضد مصالحهن وحقوقهن الشرعية!

ولعل منشأ الوهم لدى "النسويات الإسلاميات" في غياب الفقيهات عن تأليف الكتب، إذ لم تصلنا مؤلفاتهن للأسف إن وُجدت، فكان جهدهن منصبا على التدريس والإقراء والرواية والإفتاء، لا التدوين والتصنيف، فالكتابة لم تكن سهلة على الرجال ولا النساء كما هي اليوم في عصر المكتبات العامة وفضاء الإنترنت، ومن الطريف أن نجد اليوم مخطوطا لكتاب صحاح الجوهري مكتوبا بخطّ جميل لامرأة تسمى مريم بنت عبد القادر، من أواخر القرن السادس الهجري، وقد كتبت في ختامه "أرجو من وجد فيه سهوًا أن يغفر لي خطئي؛ لأني كنت بينما أخط بيميني كنت أهزُّ مهدَ ولدي بشمالي".

وكنت قد نشرت مؤخرا رابطا لمقال طويل عن تاريخ الفقيهات المسلمات، وسأعيد نشر رابطه إن شاء الله، وأشير أيضا إلى أن كاتبه تحدث في ختامه عن نزعة الغيرة والتعالي لدى بعض الفقهاء الرجال، وتعمدهم إغفال أسماء الفقيهات أحيانا في مؤلفاتهم، لكن هذا لم يؤد في أسوأ الأحوال إلى تغييب النساء عن الفقه، ولم يُنتج فقها ذكوريا، ولا يبرر لنا منح العلمانيين مبررا إضافيا للطعن في التراث العلمي. وإن كانت هناك فتاوى أو فروع فقهية بحاجة للمراجعة -وهذا حق- فلتُراجع بتجرد والتزام، وإلا فسنخرج من "فقه ذكوري" مزعوم إلى "فقه نسوي" بات واقعا ملموسا، ومدعوما بوضوح من جهات لا تريد بالإسلام والمسلمين خيرا.

ملاحظة: استعنت بصديقي الباحث الحبيب محمد المختار ولد أحمد في كتابة المنشور. شكر الله له.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين