رأيتُك منكسِرا فأحبَبْتُ الانكسار

 

صلى الله عليك يا نبي الله! صفوة خلق الله نسبا ودارا، وحسنا وجمالا، وقولا وفعالا، وخلقا وكمالا، ما رآك أحد إلا أحبَّك، وأفضل من أحبَّك أصحابك الذين استقاموا على طريق الأنبياء والمرسلين، وفاقوا سواهم من خلق الله أجمعين، أحبُّوا عبادتك، وسننك، بل وعاداتك، ومطاعمك ومشاربك، أخرج أبو عبد الله البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزا ومرقا، فيه دباء وقديد، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة. قال أنس رضي الله عنه: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ".

تناهت إلي أخبارك من رواية النقلة العدول، والأمناء الثقات، فكلفتُ بشيمك وخصالك، والعا بمخايل فضلك، وواقعة كل حال من أحوالك من قلبي موقعا حسنا جميلا، فاتنا نفسي وعالقا به قلبي، اطلعت على عبادتك، وصبرك، وجوعك، ومعاناتك، فأحببت العبادة، والصبر، والجوع، والعناء في شوق وحنين، ووجد ونزوع، ولقد تأذيت إذ قرأت ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله فقال ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل"، وتألمت من هذه القصة أشد التألم في أسف بالغ، وعجبت من عظيم احتمالك للأذى وجسيم تواضعك.

وهلك الهالكون من المنافقين وغيرهم فيما هلكوا فيه من قصة الإفك والبهتان، وتلك أيام عليك قاسية وليال فظيعة، قضيتها وقضاها أهل بيتك وأصحابك، وتولى كبر الإثم عبد الله بن أبي، فاستعذرتَ منه، وأنت على المنبر، فقلت: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام رجل من الخزرج، وهو سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وقد احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، وأنت قائم على المنبر، فتركت همك، وجعلت تخفضهم، حتى سكتوا وسكت"، لقد فجعتُ مما فجعك، وتأذيت مما تأذيتَ، جئتَ الناس تستعينهم على معاناتك، فزادوك معاناة ومشقة، فنسيت خطبَك وأعنتهم مانعا إياهم من القتال ومنقذا إياهم من ورطتهم، ورجعتَ إلى بيتك مثقلا بغم على غم، ما أصبرك! وما أشد احتمالك! وما أبلغ انكسارك!.

وقرأتُ أنك كنت مصلياً عند البيت عابداً ربك مخبتاً إليه منيباً، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلى جزور بني فلان فيأخذه فيضعه على كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم قالوا: إنه عقبة بن أبي معيط فأخذه، فلما سجدت وضعه بين كتفيك، واستضحكوا وجعل يميل بعضهم على بعض فجعل بعضهم ينظر، وأنت ساجد ما ترفع رأسك، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة وهي جويرية فطرحته عنك".

وقرأت ما حدث لك في الطائف، إذ خرجت إليها وعمدت إلى عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، رؤساء البلد، فجلست إليهم ودعوتهم إلى الله، وإلى نصرة الإسلام، فقال أحدهم‏:‏ هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك،.‏ وقال الآخر‏:‏ أما وجد الله أحدا غيرك، وقال الثالث‏:‏ والله لا أكلمك أبدا، إن كنت رسولا لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك‏.‏ فقمت عنهم قائلا لهم‏:‏ ‏إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني‏، وأقمت بين أهل الطائف عشرة أيام، لا تدع أحدا من أشرافهم إلا جئته وكلمته، فقالوا‏:‏ اخرج من بلادنا‏.‏ وأغروا بك سفهاءهم، فلما أردت الخروج تبعك سفهاؤهم وعبيدهم يسبونك ويصيحون بك، حتى اجتمع عليك الناس، فوقفوا لك سماطين،‏ وجعلوا يرمونك بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبك، حتى اختضب نعلاك بالدماء‏.‏ ولم يزل بك السفهاء كذلك حتى ألجأوك إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، على ثلاثة أميال من الطائف، وأتيت إلى حبلة من عنب، فجلست تحت ظلها إلى جدار‏.‏ فلما جلست إليه واطمأننت، دعوت بدعوتك التي تنم عن امتلاء قلبك كآبة وحزنا مما لقيت من الشدة، قلت‏:‏ ‏اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهوإني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني‏؟‏ إلى بعيد يتجهمني‏؟‏ أم إلى عدو ملكته أمري‏؟‏ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك‏‏‏‏‏‏.‏

ما أبلغك يا إبراهيمي الفطرة! في حنيفيتك، ظلمتك قريش، واعتدى عليك أهل الطائف، ورجعت منها وقد خذلك المخلوقون، وما معك إلا ربك، هل انكسر أحد قط انكسارك منفلاًّ متحطِّما، وأنت في سبيل الله داعيا إليه وناصحا لخلقه، يا نبي الله! رأيتك منكسرا فأحببت الانكسار، واستشعرت في الانكسار لذة لا تعدلها اللذات، ففيه معية رب العالمين، وعلى المنكسرين ظلال رحمته الوارفة، يا أسوة المكروبين! يا مثال الملهوفين الآسفين! يا معلِّم الخائفين الوجلين!

يفتتن الناس بالغيد الحسان، والعذارى الباكرات، ويشغفون بالجنات والأنهار، والأموال والثروات، ويتطلعون إلى القصور والرئاسات، ولكن الذي عرفك لا يشبِّب بإنسان ولا أوطان، ولا يعرِّج على ربوع ولا أطلال، لا مصر ولا الشآمات يريد، وإنه في اليمن والعراقين لزهيد، حسبك لي مطلبا، فأنت جماع المحاسن، لم يعدك الحسن في خَلْق ولا خُلُق، وفي أسوتك شفاء من شقاء وخبل، ولدتُ بعيدا عن عهدك وبلدك، فازددتُ إليك شوقا، وإن بعض بعاد البين والنأي لأشوق، صلى الله عليك وسلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين