(والشعراء يتبعهم الغاوون).. دعوة للتأمل في حال الصحابة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وصحابته وآل بيته الغر الميامين، وأستعين بالله تعالى على موافقة مرضاته، وبعد:

يقول الله عز وجل في سورة الشعراء: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}.

ويظن بعض الناس أن هذه الآيات تحرم قول الشعر والاستماع له، فهل هذا ما يفهم من الآية حقًّا؟

بداية ينبغي أن نعلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستمع إلى الشعر ويثيب عليه، كما فعل مع كعب بن زهير لما مدحه بقصيدة: بانت سعاد، وكما استمع إلى سواد بن قارب لما جاءه مسلمًا، ومما يدل على جواز قول الشعر والاستماع له قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة". وكان للنبي صلى الله عليه وسلم شعراء يقولون الشعر بين يديه، منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وغيرهما رضي الله عنهم جميعا.

الأمر الثاني: أن معرفة الشعر ودراسته ضروريان لمعرفة وجه إعجاز القرآن الكريم، وقد كان العلماء في كل علم من العلوم اللغوية والشرعية يستشهدون بالشعر لبيان معنى آية أو حديث أو استنباط قاعدة أو غير ذلك؛ وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه".

إذن ما الذي ترمي إليه الآيات الكريمة؟

الحقيقة أن هذه الآيات من أعظم الآيات التي تنفي بطريقة عملية تهمة الشعر عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هناك أمران ينبغي مراعاتهما عند قراءة هذه الآيات وتأمُّل مضامينها:

الأمر الأول: السياق التاريخي الذي وردت فيه الآيات، فقد كان العرب يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر، وقد حكى لنا القرآن قولهم في عدة آيات، من ذلك قول الله تعالى حكاية عنهم: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء:5]، وحكى عنهم كذلك: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} [الصافات: 36]، وقال تعالى أيضا: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30].

ويرتبط بهذا السياق التاريخي نظرة العرب واعتقادهم في الشعراء، فقد كان العرب يعتقدون أنَّ لكل شاعر شيطانا يوحي إليه الشعر، وكلما كان شيطان الشاعر متمكنا كان الشاعر مقدَّما على أقرانه، هذه هي نظرة العرب للشعر والشعراء، وهذا هو السياق التاريخي الذي وردت فيه الآيات، ويفهم من ذلك أن العرب كانت تتهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يأتيه شيطان يوحي إليه هذا القرآن، وقد حكى القرآن قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}[الحجر:6]، وحكى قولهم كذلك: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}[الصافات: 36]. وقد روى أصحاب السير والمفسِّرون أن عتبة بن ربيعة ذهب سفيرًا عن قريش يكلِّم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا، سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به مُلكا، ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئْيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه؛ فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه).

أما الأمر الثاني فهو سياق الآيات في السورة، الذي يبدأ من قول الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى نهاية السورة وهو ست وثلاثون آية، يمكن تقسيمها إلى ستة مقاطع:

المقطع الأول بيان إلهية القرآن، ويتكون من عشر آيات، وهي قول الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}.

ففي هذا المقطع من الآيات بيان أن القرآن مصدره إلهي نزل من الله تعالى على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة الروح الأمين جبريل عليه السلام.

أما المقطع الثاني فهو مُتمِّم للمقطع الأول وهو بيان عدم قدرة الشياطين على حَمْل القرآن وقولِهِ، وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ لكلِّ شاعر قرينًا من الجنِّ يقول الشعر على لسانه، وقد اتَّهَموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر يأتيه قرينه من الجن بهذا القرآن، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وهذا المقطع يتكون من ثلاث آيات، وهي قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}.

المقطع الثالث: بيان حال إخوان الشياطين الذين يستعينون بهم في أعمالهم، وذلك يتضمن مقارنة حال النبي صلى الله عليه وسلم بهم، وهذا المقطع يتكون من ثلاث آيات، وهي قوله تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [الشعراء: 221-223]، فإذا كان من يؤاخي الشياطين أفاكًا أثيمًا كاذبًا، فهل كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم؟ الإجابة: بالطبع لا، فقد كان نعته فيهم: الصادق الأمين، وقد قال الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖفَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، وقد قرأها الكسائي: (يُكْذِبُونَكَ) بالتخفيف، بمعنى: لا يجدونك كاذبًا.

المقطع الرابع: بيان حال أتباع الشعراء، وهذا يتضمن مقارنة حال أتباع النبي صلى الله عليه وسلم بهم، والمرء على دين خليله، ويتكون هذا المقطع من آية واحدة، وهي قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}. فهل كان أتباع النبي صلى الله عليه وسلم من الغاوين؟ بل كانوا من الراشدين المهتدين. ومعرفة صدق النبي أو كذبه بالنظر إلى حال أتباعه قد أشار إليه المسيح عليه السلام حين قال: (اِحْذَرُوا الأَنْبِيَاءَ الكَذَبةَ الَّذينَ يَأْتُونَكُم بِلِبَاسِ الحُمْلان، وهُمْ في بَاطنِهِم ذِئَابٌ خَاطِفَة. مِنْ ثِمَارِهِم تَعْرِفُونَهُم: هَلْ يُجْنَى مِنَ الشَّوْكِ عِنَب، أَو مِنَ العَوْسَجِ تِين؟ هكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ صَالِحَةٍ تُثْمِرُ ثِمَارًا جَيِّدَة. أَمَّا الشَّجَرَةُ الفَاسِدَةُ فَتُثْمِرُ ثِمَارًا رَدِيئَة).

وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].

والمقطع الخامس: يتكوَّن من آيتين ونصف آية في نهاية السورة، وهي في بيان حال الشعراء ومبالغاتهم، وهذا يدعونا ضمنيا إلى مقارنة حال النبي صلى الله عليه وسلم بحالهم، وذلك قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}.

فالشاعر الجيد هو الذي يستطيع قول الشعر في موضوعاته المختلفة ويظهر براعته ومقدرته على فنون الشعر، وقد يبالغون أحيانا فقط لإظهار البراعة، وإن كان ما يقولونه كذبا، ولذلك شاعت مقولة: أصدق الشعر أكذبه، وقد سبق بيان نفي تهمة الكذب عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أما المقطع السادس والأخير فهو نصف آية في ختام السورة، كأنها وعيد للمشركين على ادعائهم على النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل وعلى تكذيبهم القرآن، وهي قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.

في الختام يتبين أن آية (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) ليس المقصد منها تحريم الشعر، بل بيان صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعواه النبوة باعتبار حال أتباعه. والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين